ثلاث فعاليات في الرياض هذه الأيام، تدل على رسوخ "القوة الناعمة" السعودية: أوبرا "زرقاء اليمامة". ومنتدى الاقتصاد العالمي (دافوس). والاجتماع السداسي العربي عن حرب غزة قبل وصول وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن.
الرياض تشهد أول عرض أوبرا في تاريخ السعودية، الذي جاء في ضخامته ليؤشر إلى حجم الإستثمار السعودي في مجال الثقافة والفنون والرهان عليه. لحظة مهمة، تدفع أي صحافي ليكون شاهدا عليها، حاضرا فيها. التجربة فريدة من لحظتها الأولى وحتى النهاية.
يبدو وكأن العالم كله كان حاضرا في "دار الأوبرا" السعودية. موسيقي فرنسي، خبير "ذكاء اصطناعي" كندي وزوجته الإستونية، سائح بريطاني، زائر بحريني، شاب سعودي مع زوجته، ومجموعة من الشباب والفتيات. كنت جالسا معهم في صف واحد في الدار المزدحمة، نشاهد أوبرا "زرقاء اليمامة" التي تصل الغرب بالشرق، المحلي بالعالمي.
النص كتبه الشاعر والناقد السعودي صالح زمانان وشاركت فيه السوبرانو السعودية سوسن البهيتي. والإخراج للسويسري دانيال فينزي باسكا، والموسيقى للأسترالي لي برادشو، وقيادة الجوقة الموسيقية للإسباني بابلو غونزاليس، وتقنيات الصوت لفرنسيين. أما دور "زرقاء اليمامة"، فلعبته مغنية الميزو سوبرانو البريطانية سارة كونولي بعينيها الزرقاوين وصوتها الأوبرالي وهيبة حضورها.
عرض أسطوري من بدايته إلى نهايته. مزاوجة انسيابية بين الكلمات والألحان. ملامح وأزياء عربية وموسيقى وخطوط غربية، تربط بينها لغة عربية أوبرالية حلّق صداها في شوارع الرياض. عرض تضمن كثيرا من الرسائل في شكل تقديمه ومضمونه.
الأوبرا تحكي قصة "زرقاء اليمامة"، التي تنحدر من اليمامة في السعودية، وعُرفت بنظرة ثاقبة وبصيرة مدهشة. في النص الذي كتبه زمانان مستندا إلى هذه "الأسطورة"، تتعرض "العرافة" إلى الاعتداء من زعيم قبلي، فترد قبيلتها بالانتقام من أقارب الزعيم. تنتهي القصة بفقدان "زرقاء اليمامة" لبصرها وكومة جثث على المسرح.
قبل هذه النهاية الدرامية واستعراض النتائج الكارثية للكراهية والانتقام، كان هناك حديث عن التضحية والإيثار والتعاضد والحب، فـ"الحب يحييكم، والحب ينقذكم".
هناك خطوات ملموسة، ضمن "رؤية 2030" التي طرحها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان التي تتسم بالشفافية والمرونة والثقة
تصفيق حار نهاية العرض، وكومة من الأفكار وحلقات النقاش والتقييم في أروقة المركز الثقافي، لهذه البداية المدهشة في تقديم التراث السعودي بأدوات عالمية.
خبير الذكاء الاصطناعي، الذي كان حاضرا، هو أحد المشاركين في "منتدى الاقتصاد العالمي" الذي انتقل من دافوس إلى الرياض. حرص على الحضور ليكون "شاهدا على كتابة التاريخ"، خلال زيارة ترمي إلى المشاركة في حوارات عن استثمارات السعودية في الذكاء الاصطناعي.
في المساء كان في "مركز الملك فهد الثقافي"، وفي اليوم التالي، كان بين المشاركين في "المنتدى الاقتصادي العالمي" (يوم الأحد والاثنين) أقوى وأكبر اجتماع للمنتدى خارج دافوس منذ جائحة كورونا. حوار الحضارات في الأوبرا. وفي "المنتدى" حوار جرى بين صناع القرار والخبراء والفاعلين لتعزيز النهج الاستشرافي للأزمات، في وقت تهدد فيه الاضطرابات الجيوسياسية والتحديات استقرارَ العالم.
هذه الخطوات الملموسة، ضمن "رؤية 2030" التي طرحها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. وفي منتصف رحلة هذه الرؤية منذ انطلاقتها، تحقق 87 في المائة من مبادراتها. وحسب قول أحد المعنيين، تتميز الرؤية- إلى جانب أمور كثيرة- بأمرين أساسيين: الشفافية، فهي معلنة ويشعر الجميع بأنهم جزء منها، المستثمر والمواطن. والأمر الثاني الثقة والمرونة، فهي تسير بثقة في تحقيق أهدافها وقيد المراجعة الدائمة للتصحيح ولتحقيق أهدافها.
مع كل زيارة إلى الرياض، هناك مفاجأة وقفزة. السنوات الأخيرة، شاهدة على حجم وعمق التغيير في الشوارع والأبنية والمعالم والمسارح والكتب
في موازاة التحولات الثقافية والمحطات الاقتصادية، هناك حراك سياسي ودبلوماسي في الرياض التي لا تتثاءب هذه الأيام. استضافت اجتماعا سداسيا عربيا لبحث الحرب في غزة، لوضع "خريطة طريق" تتضمن وقفا فوريا وتاما لإطلاق النار، وحماية المدنيين ورفع القيود عن دخول المساعدات الإنسانية، إضافة إلى دعم جهود الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
مبادئ تمثل قاعدة إجماع عربي قبل وصول وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن والإجتماع بنظرائه في مجلس التعاون الخليجي، ثم زيارة مستشار الأمن القومي جيك سوليفان للرياض، لبحث العلاقات السعودية- الأميركية وأوضاع الشرق الأوسط والإصرار على رؤية مستقبلية.
مع كل زيارة إلى الرياض، هناك مفاجأة وقفزة. السنوات الأخيرة، شاهدة على حجم وعمق التغيير في الشوارع والأبنية والمعالم والمسارح والكتب. أمثلة كثيرة في أيام قليلة عن "القوة الناعمة" السعودية المتصاعدة، في التعليم، الثقافة، السينما، الفن، الاقتصاد، الاستثمار، والدبلوماسية والحوار. "ذخائر" من نوع آخر و"مسيّرات" تترك صداها في أجواء الشرق الأوسط وشوارع مدنها ومستقبل أبنائه.