لأنها شقية الأنواع الأدبية، بالنظر إليها كلعبة محفوفة بالخطورة، إذ أن فلسفة تدبير الأشياء في كتابتها المكثفة تقتضي أن يكون تدبيرا متقشفا ومقتصدا، يراعي ضآلة حجمها الماكر، كذا حدودها المخادعة، فضلا عن إحداثياتها البالغة الدقة، رؤية ولغة وتقنية وحكاية وتخييلا.
على هذا النحو الأنيق، فالشائع عنها لدى كتابها وقرائها ونقادها، أنها من أصعب أشكال الكتابة، وهذا صحيح، لا من باب نزوع المفاضلة بينها وبين الأجناس الأدبية الأخرى، ولكن من باب تأكيد خصوصيتها الدامغة، جمالياتها المغايرة، وهويتها النوعية القلقة أو استقلاليتها الخالصة.
مجمل القول إنها بلاغة النزق في أَبدَع تَشَكله، وألق الهامش في أجمل صوره.
غامض هو مصدر إشراقة الفكرة القصصية، فقد تهَسهس بها رياح سحرية قادمة من أنقاض الذاكرة، متحف الطفولة الأبدي. وقد نصادفها في اشتباكات حياتنا اليومية أو يكتنزها غربال تجاربنا الوجودية وكذا تشعب أسفارنا. كما قد تَعنّ لنا في تموج قراءاتنا وتذوقنا لأَثر الآخرين، باختلافه، أدبا كان أو علما، فلسفة أو هندسة، فنا تشكيليا أو سينما... وقد تفاجئنا القصة القصيرة ذاتها، لحظة كتابتنا عن شيء، فنلفي أنفسنا بقدرة قادر نكتب عن شيء آخر غير متوقع، نبتَ كفطر مباغت، وبذا تبطل ما كان مخططا له مسبقا.
المسألة تتأرجح بين ما تلتقطه العين بغرابة، وما يستيقظ في بئر الذاكرة، وما يَجمَح به براق المخيلة
المسألة إذن تتأرجح بين ما تلتقطه العين بغرابة، وما يستيقظ في بئر الذاكرة، وما يَجمَح به براق المخيلة خارج مدار المألوف.
وأما عن الشخصية التخييلية فلا يوجد نمط معيار أحادي وثابت في اختيارها أو صناعتها، فقد تقتنص البصيرة الحاذقة شخصيتها من واقعها اليومي. أو تستعيد الكتابة وفق استغوارها للذاكرة شخصية دمغت لا وعي القاص في زمن سابق أو لاحق، ضمن تقاطع حيواته المتعددة.أو تصنع القصة القصيرة شخصيتها من صلب قراءات كاتبها لتجارب أدبية أخرى، عن وعي أو من دونه، إما تستدعيها وقد زجت بها في أفق مغاير، فتمسي معها شيئا جديدا لا يشبه أصله، كما يمكن أن يكون هذا الاستدعاء لشخوص استرعت انتباهه أو أدهشته كقارئ دائما، نازعا من كل شخصية طرفا ليشيد بمجموع الأطراف شخصية جماعية طارئة بصيغة المفرد المتعدد، على نحو فرانكنشتايني. وغير ذلك يمكن للشخصية أن لا تكون واقعية ولا تاريخية، ما من وجود مسبق لها إطلاقا، بل هي محض ابتكار تخييلي من طين القصة القصيرة ذاتها وفي مطبخها لا غير... زد على ذلك أن الشخصية القصصية ليست في الضرورة محصورة في ما هو إنساني وحيواني أو ما يحيل عليهما من دمى وتماثيل ولوحات، بل قد تكون شجرة، نهرا، عمارة، أو دراجة هوائية.
أما القصص القصيرة لحظةَ الكتابة فهي لا تتوجه سوى إلى ذاتها، غير مشروطة بسلطة خارجية وضمنها القارئ، فالقاص هو نفسه قارئ قصته القصيرة في برهة كتابَته لها في آن، وبعد أن تنفصل عنه وقد مهر على شهادة ازديادها بخاتم النشر، فهي حتما انسلخت عنه وأمست في ذمة القارئ الآخر، القارئ الفعلي والمضاعف، ومع القارئ بشتى أطيافه تنخرط في حيواتها الجديدة إلى ما لانهاية، قارئا تلو آخر.
وبالنظر إلى هويتها القلقة، فالقصة القصيرة معنية بالمآلات، دائما ما تفكر في متغيراتها، تحولاتها وإبدالاتها باستمرار. ما يستقر في كل أدب هو ما يأسن وينتن ويتلاشى أو يبتذل. هي واعية بتجديد أشكالها إلى ما لا نهاية. وسؤال الما بعد ليست تحتكره الأشكال الأدبية الأخرى دونها، غير أن ما بعديتها ذات صلة بخوارزميات جنسها الخاص وضمنه هذه الوجوه والتخوم:
الما بعد الذي يتخطى ماهية النوع الأدبي. الما بعد الذي يزج بكل الوجود القصصي المتعارف عليه حتى الآن إلى مغامرة أفق غامض، مجهول، وسديمي. الما بعد الذي لا تعود معه القصة القصيرة هي نفسها، بل أخرى ضمن منحى نصي يروم القفز خلف الحدود القصوى. الما بعد الذي قد يعني فناءها الشجاع والحتمي في آن، لكن كضرورة لانبعاث أورفيوسي لها مضاعف، متجدد وانزياحي.
وهم القبض عليها ضمن هذه التجربة، أو تلك، من أمتع ما يجعلنا نركض وراءها
المفارقة أن كثيرا ممن جربوا كتابة الما بعد، رجعوا بالقصة القصيرة إلى الما قبل.
أينما وجد الما بعد، وجد طموح القصة القصيرة المتأهب، كيف لا وهي مولعة باللعب، وبذا يغدو الما بعد محض خيط للقفز إلى ما وراءه، بعد أن تستوفي متعة المشي عليه بشكل أكروباتي.
القصة القصيرة/ الحلم؟
- ما القصة القصيرة التي تحلم بأن تكون كاتبها؟
- لعلها القصة القصيرة التي تحلم هي الأخرى أن أكون كاتبها.
محض مزحة على مقاس دعابة السؤال أعلاه. لو أن الواحد منا قد اجترحها سابقا لتوقف حتما عن المزيد من الكتابة. ماذا لو أنه أنجزها فعلا وهو لا يعي ذلك؟ وهل من الضرورة أن نكف عن الكتابة ما أن نتوفق في إنجاز نص محلوم به؟
ما دامت تتماهى مع الحلم فهي هاربة. سديمية. جانحة صوب الأفول الوشيك. مع ذلك، فوهم القبض عليها ضمن هذه التجربة، أو تلك، من أمتع ما يجعلنا نركض وراءها الحلم تلو الآخر، والقصة القصيرة تلو الأخرى.
يكفي أن تكون القصة القصيرة جيدة، بملء ما تقتضيه مشقة كتابتها من براعة وخطورة.