عيسى ناصري: العالم غامض مرتبك وفوضويّhttps://www.majalla.com/node/315621/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%B9%D9%8A%D8%B3%D9%89-%D9%86%D8%A7%D8%B5%D8%B1%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D8%BA%D8%A7%D9%85%D8%B6-%D9%85%D8%B1%D8%AA%D8%A8%D9%83-%D9%88%D9%81%D9%88%D8%B6%D9%88%D9%8A%D9%91
رشحت رواية "الفسيفسائي" للروائي والقاص المغربي عيسى ناصري ضمن القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر). عن هذا يقول لـ"المجلة": "عند اطلاع المحرّرين على المخطوطة الأولى، أبدوا توقّعهم أن تظهر الرواية في إحدى قائمتي البوكر أو في كلتيهما. أنا أيضا توقّعتُ معهم أن تتقدّم الرواية في الجائزة، لأني كنت دائما ما أقرأ الأعمال التي ترشحها الجائزة، وأعرف مستواها".
تعد "الفسيفسائي" الرواية الأولى لناصري بعدما أصدر مجموعته القصصية الأولى "مسخ ذوات الناب" التي فاز فيها بجائزة أحمد بوزفور للقصاصين الشباب في العالم العربي دورة 2014، ومن ثم حصل على جائزة اتحاد كتّاب المغرب للشباب عام 2017، في مجال القصة، عن مجموعته القصصية "عمى الأطياف". هنا حوار معه.
بعد أن يكمل الفسيفسائيُ في روايتك جمْعَ قطع الفسيفساء، تستيقظ في ذهن القارئ أسئلة تتمحور حول الهوية والفنّ والحرية والحب وغير ذلك، كيف قاربْتَ هذه الأسئلة في روايتك؟
حضَر سؤال الهوية في الرواية، في الجزء المتعلِّق بالآثار الرومانية. ومن أسئلة الهوّية التي تستوقف أي قارئ للفسيفسائي: هل أطلال "وَليلي" الأثرية تحمل شيئا من أمجاد الرومان الآفلة، أم أنها توثِّق لذاكرة الموريين الجريحة وهويتهم التي تمزّقت بسبب الاحتلال؟ ماذا تبقّى من هوية الموريين وثقافتهم في تلك المدينة الأثرية وفي مواقع أثرية مجاورة، كليكسوس وشالة؟ وفي خصوص الفنّ، حاولت تعميق أسئلته. تناولتُ الفن باعتباره موضوعا للفن، جعلت الفنون تتعالق لتكريس سؤال الحدود بينها، ومدى تقاطعها مع فنّ الكتابة نفسه، وتماهيها مع فنّ الفسيفساء الذي كان محور الرواية، موضوعا وبناء. حاولت تقليب تربة أسئلة الفن، ومنها سؤال علاقته بالحرية، من قبيل: إلى أي حدّ نجح فن الفسيفساء في تمرير أحلام الموريين بالحرية. من أين تنهض الحرية، من الذاكرة، من الإرادة، أم منهما معا؟ وهل تحرّرَ الموريون بانتهاء الوجود الروماني في المغرب أم أنهم بقوا زمنا أسرى لذكرى القمع والاجتياح؟ إلى جانب الوجه السياسي للحرية، أليس هناك، في الرواية، وجهٌ فنّيّ لهذه الحرية؟ أليس انتزاع مخطوطة جواد وإخصاء صانع الفسيفساء قمعا فنّيّا؟ وفي خصوص الحبّ يمكن لقارئ "الفسيفسائي" أن يتساءل أليس "الحبّ الروائي" تعبيرا عن غيابه بوصفه قيمة واقعية تلاشت تدريجيا بفعل الضغوط القاسية للحياة المعاصرة؟ أليس هناك لدينا في العالم العربي فقر عاطفي، فتتولّى الرواية ترجمته بهذه التفاصيل المُربِكة للمشاعر.
الأثر جزء من ثقافة بلدٍ وقطعة من أمّة، وبسرقته يُسرق جزء من ذاكرة الوطن بل والعالم والحضارة كلّها
كم استغرقتك كتابة "الفسيفسائي"؟ وما طبيعة المراجع التي اعتمدت عليها لتحيط بتلك الحقبة وبفنّ الفسيفساء الذي استخدمته في الرواية؟
أخذتْ عامين ونصف العام. في الغالب كانت مراجع تاريخية، منها: تاريخ الإمبراطورية الرومانية السياسي والحضاري، الأسلوب الروماني في الأدب والفنّ والحياة. الإمبراطورية الرومانية من النشأة إلى الانهيار. وفي ما يتعلّق بمعلومات الفسيفساء، استعنت بدراسة لعبير قاسم بعنوان "فن الفسيفساء الروماني".
طرحت "الفسيسفائي" قضية شائكة ومستمرة وهي قضية سرقة الآثار المغربية، وهي تتشابه مع قضايا سرقة مماثلة حدثت في بلدان عربية أخرى. فما أهمية أن يطرح الأدب مثل هذه القضايا؟
بلدان عربية كثيرة عانت من سرقة الآثار. في مصر سرقت لوحةُ "زهرة الخشخاش"، وأحجار من الأهرامات، في تونس نُهبت مخطوطات عبرية وتماثيل وأعمدة رخامية. وفي سوريا، إثْر الحرب الأخيرة، هربت شبكات التهريب مئات القطع الأثرية الرومانية إلى تركيا. في العراق هربت آلاف القطع الأثرية عقب حرب الخليج. في المغرب نُهبت نفائس من مواقع رومانية (وليلي، ليكسوس) في عهد الاستعمار الفرنسي وبُعيده من قبل مافيات ومرتزقين. الملاحَظ أن غالبية القرصنات الكبيرة، حدثت في ظروف عرفت فيها هذه البلاد قلاقل أو احتلالا أو حروبا. كانت، أيضا، سرقات لها اتجاه واحد: من الدول النامية، في آسيا وشمال أفريقيا إلى الدول الأكثر ثراء كفرنسا وإيطاليا. وأعتقد أن استحضار هذه الظاهرة في الرواية، كما في الأفلام، راجع لغرضين، أولهما إضفاء طابع التحرّي البوليسي على الرواية، وذلك من خلال تتبُّع عصابات سرقة الآثار واقتفاء ظلالهم. وثانيهما متعلّق بالأثر ذاته، وهو ربط الأثر المسروق بالذاكرة والتاريخ. فالأثر المنهوب تذكار السابقين للاحقين. إثباتٌ لوجودٍ آفل. إنّ الأثر جزء من ثقافة بلدٍ وقطعة من أمّة، وبسرقته يُسرق جزء من ذاكرة الوطن بل والعالم والحضارة كلّها. هذا بالإضافة إلى أن طرح موضوع سرقة الآثار، يساهم، بشكل من الأشكال، في تثمين الموروث والترويج له.
— International Prize for Arabic Fiction (@Arabic_Fiction) April 10, 2024
بين الضوء والظل
كان إصدارك الأول مجموعة قصصية، ومن ثم انتقلت إلى الرواية، فمتى تكتب الرواية ومتى تكتب القصة؟
أنطلق في كتاباتي عامّة من تصوّر أن العالم غامض، مرتبك وفوضويّ، ومتعدّد، متنوّع ومختلف في جغرافيّاته وبيئاته وثقافاته، ولكي أمسك بتعدّده وجغرافياته ومنخفضاته ومرتفعاته وسهوبه ومفاوزه ومناطق الظلّ والضوء فيه، عليّ أن أنظر إليه من أكثر من زاوية، وبأكثر من منظار. من ثمّ علينا أن نكتبه بأكثر من جنس أدبي، نلتقط اختزاله وتكثيفه بالقصّة، وعندما نريد أن نحاصر امتداده واتساعه نركن للرواية. أرى أن الكاتب ينبغي ألا يخندق نفسه في جنسٍ أو نوع أدبيّ بعينه. عليه أن يعبُر بين الأجناس ليكتشف جماليات جديدة ويجرِّب أدوات جديدة. الكتابة عندي مشروع، مغامرةُ بحثٍ واكتشاف. فقد جئت من القصة، وسأعود إليها. أنا الآن في صدد اختبار الرواية لأكتشف بها العالم. هذا العالم الأشبه بمدينة أثرية أكتشفها مع قارئ في "الفسيفسائي".
ما أكثر ما يشغلك في عملك الإبداعي؟
ما يشغلني هو إيصال صوت الهامش، والتعبير عن المنسي والمنسيّين. يشغلني البسطاء والمهمّشون والمغيّبون. أسعى الى إعلاء صوتهم الذي هو صوت الخاسر. فالكتابة للخاسرين. الأدب ينحاز للخاسرين. أنا مع الخاسرين، قادم من الهامش، من المغرب العميق، وإليه أعود في كتابتي.
يشغلني البسطاء والمهمّشون والمغيّبون. أسعى الى إعلاء صوتهم الذي هو صوت الخاسر
متى تشعر بأن عملك الأدبي انتهى ولا يحتاج إلى أية كلمة إضافية؟
لست من الكتاب الذين يُجهِزون على نصوصهم بإنهائها في وقت قياسي. لأني أومن بأن الكتاب يكتب نفسه، ويفرض شروطه على الكاتب، ويختار لنفسه الصيغة النهائية التي سيخرج بها. فعندما يكفّ النصّ عن محاورتي بإمكاناتٍ وإبدالاتٍ جديدة، هنا أتركه يخرج لمعانقة النور.
كيف تنظر إلى الحركة الأدبية في المغرب وما الذي يميزها عمّا يقدَّم في العالم العربي؟
على مستوى التأليف، ثمة زخم إبداعي في مخلف الأجناس الأدبية، أمّا على مستوى المواكبة والأنشطة الأدبية والترويج للكتاب، لا يزال عندنا نقص، إن لم نقل ضعفا، مقارنة مع بلدان المشرق العربي. وأعتقد أن هذا الفارق البيِّن يتحكم فيه عامل واحد وهو الإنفاق على الأدب وعلى الثقافة في وجه عام.