في القرن الثاني قبل الميلاد وضع جغرافي إغريقي يدعى أغاثارخيدس الكنيدوسي كتابا بعنوان "عن البحر الأحمر" وصف فيه بصيغة المتكلم جغرافيا البلدان المحيطة بهذا البحر، وهو ما أعطى انطباعا بأن الكتاب أتى نتيجة رحلة شخصية شملت الإقليم بكامله، ومنه وصف غير مسبوق لساحل المنطقة الغربية من المملكة العربية السعودية واليمن، الأمر الذي شجع غالبية الجغرافيين الرومان والإغريق الذين أتوا بعده على الاقتباس منه بشكل مسهب أو مختصر. لكن، ومن سوء حظنا وحظ أغاثارخيدس، أن كتابه فقد منذ القرن التاسع الميلادي، ولم تصلنا منه سوى تلك الاقتباسات.
عن البحر الأحمر
من المرجح أن أغاثارخيدس ولد في مدينة كنيدوس وهي مدينة صغيرة على ساحل كاريا القديمة بالقرب من مدينة مارمريس التركية المعاصرة، ومن هنا جاءت تسميته بالكنيدوسي. استقينا معلوماتنا الضئيلة عن حياته من البطريرك القسطنطيني، ذي الأصل الأرمني، فوتيوس (820- 893م)، صاحب موسوعة "المكتبة" التي جمع فيها كل ما وصله من آداب وفنون الإغريق في مرحلتهم الوثنية بعدما أحرقت أو أتلفت الكنيسة معظم مؤلفاتهم، ومما عرفناه أن أغاثارخيدس، كان يعمل مساعدا للسياسي البطلمي المصري هيراكليدس ليمبوس، الشهير بأنه صاحب المعاهدة التي أنهت الصراع الطويل بين البطالمة في مصر والسلوقيين في سوريا عام 169 قبل الميلاد، وأن له كتابين معروفين بالإضافة الى كتابه "عن البحر الأحمر" موضوع مقالتنا هذه، هما: "شؤون آسيوية" في عشرة فصول، و"شؤون أوروبية" في تسعة وأربعين فصلا، وهي مؤلفات مفقودة لم تنج منها سوى شذرات لا تكفي لأن يكوِّن المرء عنها أدنى فكرة.
ثمة جدال قديم حول كتابه "عن البحر الأحمر" والغاية من تأليفه، فقد أوحت دعوته في الفصل الأول إلى غزو الأراضي الواقعة جنوب مصر، إلى الاستنتاج بأنه كان شخصية سياسية مهمة في عصره، وأنه ربما كان مربيا لأحد أبناء الملك بطليموس الثامن (182- 116 ق.م)، ولذلك يجادل بعض الباحثين المعاصرين بأن هذا الكتاب هو تلخيص لنتائج بعثة استكشافية بطلمية شارك فيها أغاثارخيدس الذي ناقش في الفصل الأول تسمية البحر الأحمر، ومن أين أتت، وفي الفصل الخامس تحدث عن سواحل الجزيرة العربية، ووصف حياة السبئيين، وطريقة حياة "أكلة السمك"، وكذلك طرق العمل في مناجم الذهب في جنوب مصر بالقرب من البحر الأحمر، والتي نسخها بالكامل، الجغرافي الشهير ديودور الصقلي (90- 30 ق.م). كما يعزى إليه أقدم وصف للزرافة التي أطلق عليها اسم "الجمل النمري"، وكذلك لوحيد القرن، وربما كان أول الإغريق الذين اكتشفوا السبب الحقيقي لفيضان نهر النيل سنويا.