بين حين وآخر يرتفع شعار نهاية الفلسفة، وأنه لم يعد ثمّ سوى المثقفين وأن الفلاسفة اختفوا من العالم، وفي تصوري أن كل من يرفع هذا الشعار بحاجة إلى أن يقرأ أكثر في الفلسفة. لفت انتباهي مقال لأحد هؤلاء المبشرين بنهاية الفلسفة ممن يكتبون في الصحف، قال إنه يعتمد على ستيفن هوكنغ، الفيزيائي المشهور، فمنه سمع بنهاية الفلسفة.
هذا الاعتماد يدل على عدم معرفة بتاريخ الفلسفة، ويوحي بشعور بالعجز عن دخول عالمها. هذه أول خطوة ضرورية للمعنيّ بهذا الشأن، أن يصبر ويقرأ التاريخ ويتصوره تصورا واضحا، فإحالة هذه الدعوى إلى هوكنغ ليست بصحيحة بالمرّة، فقبله دعت "حلقة فيينا" التي تأسست في 1925 إلى أن الفكرة ذاتها تنحصر في وضع الأسئلة لكي يجيب عنها العلم. قبلهم، أوغست كونت، داعية الوضعية الأساسية في القرن التاسع عشر، كلهم سبقوا هوكنغ، بل يمكن إرجاع القضية إلى ديفيد هيوم (توفي 1776)، فقد دعا إلى حرق كتب الميتافيزيقا، والميتافيزيقا هي الفلسفة. مشكلة هؤلاء جميعا أنهم كانوا يتقاتلون مع تصورات في أذهانهم يظنونها الفلسفة.
ومن العلماء يقف آلبرت آينشتاين مع هؤلاء، فقد سبق وقال "الميتافيزيقا كلام فارغ". لكن لو أمعنا النظر، لوجدنا أن العلم نفسه لا يمكن أن يعيش من دون الميتافيزيقا، فرؤية نيوتن الآلية للعالم، احتوت هي الأخرى على تصورات ميتافيزيقية. قوانين الحركة الثلاثة، ومفهوم السرعة المطلقة، كلها لم تقم على التجربة. قد يقال إن هذا كان في زمن نيوتن، وإن من أتوا بعده تخلصوا من الميتافيزيقا، لكن هذا غير صحيح أيضا، فآلبرت آينشتاين نفسه لم يكن خاليا من التصورات الميتافيزيقية ولم يكن ماديا بالصورة التي يراد تصويره بها.
العلم نفسه لا يمكن أن يعيش من دون الميتافيزيقا، فرؤية نيوتن الآلية للعالم، احتوت هي الأخرى على تصورات ميتافيزيقية
مصطلحاته عن الزمكان والكتلة والطول الحقيقي، كلها مفاهيم ميتافيزيقية، وكلها كانت مفاهيم ضرورية لقيام نظريته. وأوضح من ذلك، نظريته عن اختفاء الزمان والمكان عند اختفاء الأشياء، فهو لم يتحقق منها تجريبيا. ولم يستطع العلم إلى هذه اللحظة أن يتحقق من صحتها علميا، إذ ليست سوى فرضية ميتافيزيقية أخرى جادت بها عبقرية هذا العالِم الكبير فساعدتنا على تصور العالم من حولنا. مفاهيم مثل بقاء المادة وفنائها، هي في واقعها ليست سوى تصورات ميتافيزيقية، إذ هي ليست فناء حقيقيا يحدث بالفعل للمادة، بل هو فناء معرفي، لأن معرفتنا محدودة، وكل نظرية تتجاوز إدراكنا هي حديث في الميتافيزيقا. هذه الميتافيزيقا المظلومة هي أم كل تلك الاكتشافات العقلية القائمة على الحدس.
ومع أننا في زمن النسبية، لكننا نجد أن مفهوم الفراغ أو الفضاء الخالي، برغم كونه نظرية ميتافيزيقية أخرى، وبرغم رفض بعض العلماء له، إلا أن الحاجة إليه لا تزال قائمة وماسة، ليكون وسيطا حاملا للشحنات الكهرومغناطيسية، وليس اهم في فهم العلماء للظواهر الفيزيائية.
غير أن الطامة الكبرى لعلم القرن التاسع عشر، جاءت مع فيزياء الكم التي أتاحت مساحات شاسعة للميتافيزيقا، من خلال تصورها للعالم تصورا يقوم على العشوائية واللا حتمية واللا دقة ورفض الاستقراء. ولا يحتاج الأمر إلى حِجاج، عندما نرى أن قول فيزياء الكم بوجود عوالم موازية متعددة، يكفي للاعتراف بميتافيزيقيتها.
وكذلك عندما يقرر العلم أن القوة سبب الحركة والتأثير عن بعد، فإنه لم يبن هذا على التجربة. وعندما يجعل الحركة علة خارجية، فهذا اقتراح ميتافيزيقي، وفرضية الجاذبية نفسها هي فرضية ميتافيزيقية بامتياز، فهي ليست ضرورية ولا مادية.
مثال آخر نجده في نظرية الأثير التي استخدمها نيوتن وغيره، وكيف فسر بها العلماء قضايا معينة تتعلق بالضوء وحركته، فالضوء يحتاج إلى ناقل، فكان الأثير. لكن آينشتاين اكتشف في ما بعد أنه لا حاجة إليها فشطبها بجرّة قلم، مجرد فكرة ميتافيزيقية تم الاستغناء عنها بفكرة ميتافيزيقية أخرى.
فرضية الجاذبية نفسها هي فرضية ميتافيزيقية بامتياز، فهي ليست ضرورية ولا مادية
والعالم المادي عالم ميتافيزيقي فنحن نرى الأشياء الجزئية ولا نرى العالم المادي، بل نحن من اخترعناه. والمادية فلسفة ميتافيزيقية كالمثالية، رغم إنكارها لهذه الحقيقة وسعيها للاقتران بالعلم وحده وميلها للتدثر بردائه، لذلك وجدنا هيغل في "موسوعة العلوم الفلسفية" يقرر أن "كل فلسفة تصف نفسها بالتجريبية العلمية، تستخدم مقولات ميتافيزيقية، مثل: المادة، والقوة، والواحد والكثير، والعمومية، واللامتناهي"، هذا معناه أن التحرر من الميتافيزيقا أمر من المستحيلات.