اليوم، تحرص زينة على نشر الوعي في دائرتها القريبة حول ضرورة الفحص المبكر وفهم مراحل تجميد البويضات، "البعض يخبرنني أنهن لا يرغبن في الإنجاب، ومع ذلك أنصح بالخطوة، لأنّ قرارهن قد يختلف بعد عشر سنوات مثلا، وفي حينها لا عودة إلى الوراء".
"أتحكّم بساعتي البيولوجية"
هذا الوعي بالرغبة في الإنجاب، أدركته ريم في مرحلة متأخّرة نسبة للعمر الموصى به، "فكّرت بالخطوة بعد علاقة دامت 5 سنوات وانتهت بالانفصال. كان عمري 37 سنة، ورغبتي في إنجاب أطفال كانت لا تزال قائمة، فقررت تجميد بويضاتي".
كانت تصطحب جهاز الكومبيوتر المحمول وتعمل من غرفة الانتظار في العيادة لتستفيد من 3 ساعات تقضيها ليحين دورها مع الطبيبة. وعن أكثر ما أزعجها: "تخيّلي شكات للحقن المشحونة بالهورمونات كلّ يوم، كانت العملية اصطناعية جدا، آلمتني. عشت ضياعا كبيرا لأنّ طبيبتي وهي الأشهر في مجالها، كانت منشغلة الى درجة لم تكن تطلعني على المراحل بالتفصيل أو تعطيني الوقت الكامل لشرح ماذا يحدث في جسمي الذي كدّس دهونا زائدة وأنا شابة رياضية أهوى الركض. لم أكن أدري أنّ العمليّة تتطلب تخديرا عموميّا. تعلّمت أنّ إنسانية الطبيب بأهمية كفاءته، بل هي جزء منها".
تقيّم تجربتها بـ"المخيّبة" من كل النواحي: "كنت أعقد آمالا عظيمة على هذه العملية، وأخذتها على محمل الإرادة والقوة، فتعمّدت حجز موعدي الأول في يوم المرأة العالمي. النتيجة كانت 5 بويضات بجودة متدهورة، ولم تنصحني الطبيبة بتلقيحها في المستقبل. وحين عرَضت عليّ إجراء عملية ثانية، رفضت".
لكنها تشعر بالرضا الذاتي، "نوع من راحة الضمير تعفيني من سؤال: "ماذا لَو؟"، كما أنّ التجربة أمدّتني بشعور عالٍ بالتمكين. حين انتبهت إلى أنّ ساعتي البيولوجية تدهمني، بحثت عن الحل ووجدت أنّ العلم بجانبي، وأنا أستطيع وقف ساعتي البيولوجية. ومثلما اخترت أن أوقفها، اخترت في ما بعد أن أتركها تدور".
بالنسبة إلى ريم، المعضلة تكمن في "أنّ السّن التي تجسّد قمّة النضج الأمومي عندنا هي إجمالا السن التي تجسد قمّة النضج المهني. مشكلتي تتشاطرها الكثيرات: ليس عندنا متسع من الوقت للتعرف إلى رجال وإعطاء حياتنا العاطفية حقّها، وقد يأتينا شعور مثل التجلّي برغبتنا في الأمومة، في وقت قد يكون فات الأوان".
الضرورة والخيار و"الترند"
نقصد مركزا متخصصا في مستشفى جبل لبنان. القاعة في الخارج تكتظّ بالأزواج، وغالبيتهم ينشدون حلولا للعقم أو لانخفاض الخصوبة بسبب التقدّم في العمر، بحسب ما توضح الطبيبة المعالجة لـ"المجلة". مسحة محيّرة من القلق والرجاء والطمأنينة والحزن والحذر تكسو بدرجات متفاوتة الوجوه، موحية بأنها جزء من اللوحات الكثيرة المعلّقة، التي تقارب تقليدا للوحات شاغال بشخصياتها الحالمة.
مديرة مختبر أطفال الأنابيب ومستشارة العقم في مركز عازوري الطبي، الدكتورة جيسيكا عازوري، تشرح كيفية إجراء عملية تجميد البويضات: "تتشابه في مراحلها مع عملية التخصيب المجهري، لكن بدلا من زرعها في الرحم، تُجمّد البويضات في تقنية liquid nitrogen، وتُحفَظ في بنك التجميد".
تتابع: "بعد الفحوص اللازمة، يبدأ العلاج من خلال تحفيز الإباضة بإبر الهورمونات لمدة تصل إلى 12 يوما، ثم نقوم بسحب البويضات وتجميدها، والعملية ليست مؤلمة وتستغرق بضع دقائق. تكلفة العلاج والعملية في لبنان تتراوح ما بين 1500 و2000 دولار أميركي".
تشير عازوري إلى أنّ تجميد البويضات الاجتماعي باهظ التكلفة في بلدان من المنطقة. ولبنان يعتمد تقنيات متقدّمة بتكلفة مقبولة، فأصبح مقصدا لهذا الغرض من نساء في بلدان عربية، أهمّها العراق.
وتلحظ عازوي زيادة متسارعة في طلب تجميد البويضات، مبرزة عينة لإحصاءات المركز. تبدو قفزة نوعية، من حالة واحدة في عام 2012 إلى 105 حالات في عام 2023. واللافت، أنّ التصاعد السريع للطلب تزامن مع بداية الأزمة اللبنانية في خريف عام 2019 حيث كان العدد 34 حالة فقط، وقد تضاعف بمقدار 300 في المائة خلال أربع سنوات.
تربط الطبيبة هذه الزيادة بانخفاض الاقبال على الزواج في لبنان. كما تلمس أنّ الوعي بهذا الاجراء بات أكثر انتشارا على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو حاجة لدى النساء العصريات المنشغلات بتحقيق الذات في العمل وبناء سمعة مهنية. وتحدّد أنّ النساء اللواتي يجرين التجميد الاجتماعي هنّ من ذوات التوجّه المهني وحملة الشهادات العليا، أدركن أنّ أجسامهنّ تحمل تلك الساعة التي تسيل، لكن زواجهنّ يتأخر بسبب الانتقائية العالية في اختيار الشريك.
من ناحية الثقافة والتقاليد السائدة، تشير إلى "تابو" اجتماعي يحمله هذا الاجراء بالنسبة إلى شابات يتردّدن أو يصرفن النظر عن الخطوة، بسبب احتمال خرق غشاء البكارة من خلال الإبرة الموصولة بآلة شفط البويضات، وقد يعمل الأطباء على رتق الغشاء، ما لا تشجّعه عازوري، "العذريّة تقاس بممارسة الجنس. الغشاء لا يعني شيئا".
في المقابل، تقول إنّ تجميد البويضات يصبح ضرورة يطرحها الأطباء في حالتين:
أوّلا- إصابة المرأة العزباء في سن الإنجاب بالسرطان واستدعاء العلاج الكيميائي، فيصبح الإجراء إجباريا لتحافظ على خصوبتها.
ثانيا- بطانة الرحم المهاجرة، التي تتسّبب بتآكل مخزون البويضات بشكل مدمّر للانجاب، فقد تتوقف العادة الشهرية لدى المصابات بهذه الحالة المرضيّة بعمر الثلاثين.
وتضيف أنّ وجود تاريخ جيني في العقم أو تأخّر الانجاب يُلزِم القيام بالفحوص في سنّ مبكرة، للتدخل في الوقت المناسب.
تشدّد الطبيبة على أنّ تجميد البويضات ليس ضمانا للحمل في المستقبل، ويمكن وضعه في خانة التدبير الوقائي. أما نسبة نجاح الحمل فتصل إلى 70 في المئة في حال جمدت البويضات في عمر 32 سنة.
وتختم عازوري بملاحظة: "تزورني شابات في بداية العشرينات، يرغبن بتجميد البويضات. لمست أن هذا المفهوم يأخذ حلّة 'الترند' لدى هذه الفئة العمرية، في ظل انتشار التوعية الأونلاين حوله. ويكون رأيي أنّ هذه التقنية غير مجدية لهنّ لأن عمر البويضة في التجميد هو 10 سنوات كحد أقصى ويستطعن الإنجاب بطرق طبيعية خلالها".
انصياع أم تجاوز؟
على الرغم من انحسار النظرة إلى الأمومة في لبنان والمنطقة العربية كمصير بيولوجي لا فرار منه، إلا أنّ هذا لا يعني عدم تعرّض نساء عاقرات أو لا إنجابيّات للقوالب النمطية والمعاني الانتقاصية التي تأسست على أنّ نشاط النساء الإنجابي يندرج ضمن الحيّز العام.
من هذا المنطلق، تتداعى فكرة مسبقة شائعة في المجتمعات وعابرة للتاريخ، تتعلّق بمفهوم "غريزة الأمومة". يفيد هنا التذكير بما قالته سيمون دو بوفوار: "إنّ الاعتراف بأنّ هذه الغريزة ليست موجودة، يعني الاعتراف بأنّ المرأة يمكن أن تختار أن تنجب أطفالا أو لا". لم تكن إذن تتحدّث عن غريزة أموميّة، بل عن شعور أموميّ.
فإن حيّدنا الدوافع المباشرة المتعلقة بخصوصية كل امرأة، هل تجميد البويضات الاختياري هو في عمقه فعل تجاوز للأطر التقليدية الناظمة وحتّى "الساعة البيولوجية"، أم أنه انصياع لكلّ ما هو تقليديّ-اختزالي للمرأة في مهمّة إنجابيّة؟
رئيسة قسم دراسات الشرق الأوسط وأستاذة دراسات المرأة والجنسانية في كلية ديكنسون الأميركية، اللبنانية ميراي ربيز، توضح أوّلا أنّ هذا الإجراء تحوّل منذ ثمانينات القرن الماضي من كونه إجراء طبيّا بحتا تتخذه النساء اللواتي يعانين من حالات طبية تؤثر على خصوبتهن، إلى إجراء اختياري واجتماعي. واليوم، يجري إعلان هذه التقنية كأداة لتمكين المرأة العاملة، فهي تساعدها في فهم جسمها وحقوقها الإنجابيّة والتحكم بالخصوبة، بل هي أيضا رمز للعناية بالذات.
تحلّل الدكتورة ربيز وضعية تجميد البويضات في المجتمع اللبناني، مرتكزة على عاملين يتقاطعان في فرض سلطة على خيارات اللبنانيين عموما، وبموضوع هذه التقنية خصوصا، وهما الدين والمال.
وضعت الأحكام الدينية إجراء التجميد الاختياري في نطاق التحليل والتحريم. أجاز الأزهر عملية تجميد البويضات بشرط مراعاة ضوابط معينة، وهي "أن يكون الدافع مشروعا، وموجودا وقت عملية التجميد، وأن تُحفظ البويضة بشكل آمن يمنع اختلاط الأنساب". وإذا كان التجميد الاختياري يراعي هذه الضوابط، يظهر الشرط الثالث ليعلن الممنوع، حيث يجب أن تتمّ عملية تخصيب بين الزوجين. وهناك مذهب تشدّد بوضوح في "تحريم تجميد البويضات للعزباء". أما المسيحيون، فلم يظهر عندهم حكم واضح في هذا الخصوص.
تعلّق ربيز: "أضيفي أنّ بعض التفسيرات الدينية تعارض كل علاجات الخصوبة، من تجميد البويضات إلى المكملات الهرمونية، إلى التلقيح الاصطناعي... الفكرة وراء كل ذلك هي أن الله خلق الإنسان كاملا. لذلك، علينا أن نقبل أجسادنا كما هي، حتى لو لم تنجب الأطفال. أحترم هذا التصوّر. لكن المجتمع اللبناني وهو مجتمع محافظ، يحدّد للنساء ما يجب فعله وما لا يجب فعله، بما فيه إعطاؤها دورا إنجابيا من خلال شرائع الديانات التوحيدية. وبعبارة أخرى، فإن المجتمع يعتبر أنّ المرأة يجب أن تكون عنصرا في عملية التكاثر ليكون مصيرها ناجزا".
تسجّل الباحثة موقفا مزدوجا: "مجتمع متدين يطلب احترام إرادة الله وخلقه، ومع ذلك فإن هذا المجتمع نفسه يعيب المرأة التي لا تريد الإنجاب أو التي تستخدم علاجات للخصوبة، فيشفق عليها، ويسقط عليها كمّا من الافتراضات الرجعية بما فيها العنوسة".
تضيف: "أؤمن بأنّ الله خلقنا على قدر من الذكاء، وبأنّ العلم في خدمتنا لتحسين أسلوب حياتنا، وأجسامنا، وعقولنا، خاصة عندما تكون المرأة المعنية على علم بجسدها وحدوده المحتملة. وكون هذا الخيار متاحا سواء في الشمال العالمي أو الجنوب العالمي، لا يعني أنّه يناسب الجميع. على سبيل المثل، تزدهر الجراحة التجميلية في لبنان، فهل تتم وفق الاجراءات اللازمة؟ بالطبع لا. وبالمثل، يجب على المرأة أن تكون واعية بكل مراحل تجميد البويضات، وأن تضع المخاوف الطبية في الحسبان".
عنصرية رأسماليّة
على المقلب الآخر، تعيد تكلفة تجميد البويضات خلط الأوراق بالنسبة لتقدّميتها الملهَمة من الحراكات النسويّة، ومطالباتها بالعدالة الانجابيّة. فالعلاج ليس متاحا لكل الطبقات الاجتماعية، مما يفرض شكلا من أشكال الفصل العمودي ضمن النساء. المقتدرات من الطبقة المتوسطة العليا وما فوق، يمكنهنّ الوصول إلى هذه العلاجات، عكس النساء من المستويات الفقيرة.