ذكرت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستالينا جورجييفا، في مقال نشره أخيرا الموقع الالكتروني للصندوق بعنوان "تعزيز استقلالية المصارف المركزية لحماية الاقتصاد العالمي"، أن التجارب أثبتت أن هذه الاستقلالية هي الأساس في كسب معركة كبح التضخم وتحقيق النمو الطويل المدى. وبفضلها، تمكنت الدول من تجاوز التداعيات المالية لجائحة "كوفيد–19"، وتجنب انهيار مالي عالمي. لكنها، أي الاستقلالية، تبقى عرضة لتحديات وضغوط، أهمها المطالبات بخفض أسعار الفائدة، والتدخلات السياسية في قرارات المصارف المركزية، خصوصا قبل الانتخابات النيابية، وفي تعيين المسؤولين عنها.
وكان صندوق النقد نشر قبل شهر من ذلك، ورقة بحثية عن مقياس جديد لاستقلالية المصارف المركزية وفقا لمعايير عشرة.
كيف ترسخت استقلالية المصارف المركزية؟
تاريخيا، ظهرت فكرة استقلالية المصارف المركزية لحماية أموالها من تسلط الدولة عليها. وفي ذلك، يؤثر عن نابليون بونابرت إعلانه الرغبة لدى رعايته تأسيس مصرف فرنسا، بأن ينحصر تمويل الأخير للخزانة في تقديم التسهيلات لا القروض. بعد الحرب العالمية الثانية، ترسخت استقلالية "البوندسبنك" الألماني على يدي المستشار كونراد إديناور، لحفظ المصرف من ضغوط تمويل أية مغامرة عسكرية مستقبلية، كتلك التي قادتها النازية. وبعد توقف العمل بقاعدة الذهب في بداية السبعينات الماضية، خدمت الاستقلالية المصارف المركزية في كبحها ارتفاع معدلات التضخم، فتعززت صدقية هذه المصارف وتمكنت من اتخاذ قرارات صعبة من دون تدخل سياسي. ومن أهم الأمثلة في هذا المضمار، "ركود بول فولكر" في أوائل الثمانينات، الذي كان ضرورياً لإنهاء التضخم العظيم.
لكن المشكلة حصلت مع اندلاع الأزمات المالية وتعاظم الديون، خصوصا ابتداء من عام 2008. فقد ترددت المصارف المركزية، رغبة منها في الحفاظ على استقلاليتها، في الاستجابة المباشرة لهذه المشاكل، وفضلت تدخلا من الدرجة الثانية، كالتيسير الكمي وسياسات أسعار الفائدة السلبية وغيرها. وهي في مجملها، مبادرات شوهت الأسواق المالية، وعرضت المصارف المركزية لانتقادات أهمها، ضرورة ترك القرار في مبادراتها التي تؤثر على المداخيل للمسؤولين المنتخبين من الشعب.
كشفت الأزمات، إذا كان للمصارف المركزية أدوات ناجعة للجم التضخم، فإنها في المقابل، تفتقر لأدوات مماثلة لتحفيز التضخم الى المستويات المطلوبة وهذا هو جوهر المشكلة الرئيسية اليوم
كذلك، كشفت هذه الأزمات أنه، إذا كان للمصارف المركزية أدوات ناجعة للجم التضخم، فهي تفتقر في المقابل، لأدوات مماثلة لتحفيز التضخم الى المستويات المطلوبة، وهذا هو جوهر المشكلة الرئيسة اليوم، المتمثلة في ترسخ التيارات الانكماشية في العالم، وأيضا توسع المديونية المفرطة في القطاعين العام والخاص، وارتفاع أخطار اندلاع أزمات مالية جديدة، وعدم قدرة المصارف المركزية على التصدي لهذه المشاكل بفاعلية.
ضرورة تعديل المسار
وكان هناك تساؤل عما إذا كانت السياسات التقليدية وغير التقليدية التي اعتمدتها المصارف المركزية قد استنفدت حدودها القصوى، بحيث باتت هناك ضرورة لتعديل المسار في اتجاه تعاون أوثق بين هذه المصارف والحكومات المنتخبة ديمقراطيا، لتعملا معا على رسم السياسات وتنفيذها.
هذا ما حصل في سويسرا عند اندلاع أزمة "كريدي سويس"، إذ لم يتفرد المصرف المركزي السويسري، الذي يعتبر من أكثر المصارف المركزية استقلالا، بإدارة الأزمة، بل تشارك (كسلطة نقدية) مع المجلس الاتحادي (كسلطة سياسية) وهيئة الإشراف على الأسواق المالية الـ"فينما" (كسلطة تنظيمية)، في إخراج حل للأزمة يقضي بدمج "كريدي سويس" قسرا مع منافسه "يو. بي. أس."، على أن يقدم المصرف المركزي تسهيلات إلى المصرف الدامج بضمان الاتحاد لأية التزامات قد تتكشف لاحقا في ذمة المصرف المدموج.
الثلاثي الذي تشكل لحل أزمة "كريدي سويس"، كان فاعلا ومثاليا وجنب البلاد تجاذبا شعبويا كالذي حصل خلال أزمة اليورو، عندما تراجعت الحكومات الأوروبية عن التدخل في حل معضلة الديون السيادية والأزمات المصرفية
هذا الثلاثي الذي تشكل لحل أزمة "كريدي سويس"، كان فاعلا ومثاليا وجنب البلاد تجاذبا شعبويا كالذي حصل في محيطه الجغرافي خلال أزمة اليورو، عندما تراجعت الحكومات الأوروبية عن التدخل في حل معضلة الديون السيادية والأزمات المصرفية، تاركة الأمر لتقدير المصرف المركزي الأوروبي، ليعود السياسيون وينقلبوا عليه وينتقدوه، بحجة تجاوزه صلاحياته، معتبرين أن تدخله بصوره المتعددة، من تقديم قروض الملاذ الأخير وشراء الأصول من سندات حكومية وسندات شركات عالية الجودة، وإطلاق أسعار فائدة سلبية، أفضى إلى إعادة توزيع في الدخل، وهي مسألة تتعلق بالسياسة المالية أكثر من كونها مسألة سياسة نقدية.
حدود دور الحكومات
ومن الاقتراحات التي طرحت لتجاوز القصور والانحرافات في استقلالية المصرف المركزي، عودة الدولة الى توسيع نفوذها على السياسة النقدية، مع ما لهذا الامر من أثر فوري في الخروج من الانكماش. هذا التصور عرضه حاكم الاحتياطي الفيديرالي الأسبق بن برنانكي، ويقوم على فكرة أن يحدد المصرف المركزي بشكل مستقل مقدار الأموال التي يجب ضخها لمعالجة الانكماش وإيداع ما يقابلها في حساب الخزانة، بحيث يكون الأمر متروكا لـ"هليكوبتر" الحكومات والمجالس النيابية لتقرير توزيع الأموال بصورة عادلة، على شكل مستردات ضريبية أو تقديمات عامة وغيره.
يمكن تجاوز إشكالية الاستقلالية المطروحة، بتوسيع تواصل المصارف المركزية مع الجمهور مباشرة للتصدي للاتهامات التي تساق ضدها في أنها مؤسسات غير ديمقراطية
أخيرا، يمكن تجاوز إشكالية الاستقلالية المطروحة، بتوسيع تواصل المصارف المركزية مع الجمهور مباشرة للتصدي للاتهامات التي تساق ضدها في أنها مؤسسات غير ديمقراطية، كون المسؤولين عنها موظفين لم ينتخبهم الشعب ولا يسألون أمامه في أية انتخابات. ويكون الأمر باتصال هؤلاء المسؤولين مباشرة بالمواطنين في المدن والمناطق، فيعرضون عليهم المشاكل النقدية والمالية والحلول المطروحة وأهمية الامتثال لتدابيرها لتحقيق نتائج محددة في تواريخ معينة، ويستمعون الى آرائهم للحصول على دعمهم للتدابير التي سيتخذونها، فتضمر بذلك الانتقادات الشعبية لهذه التدابير، وانتقادات السياسيين، تاليا، لاستقلالية المصارف المركزية.