وإذا ما أقدم الفلسطيني من سكان القدس على مغادرتها إلى مناطق خارج حدودها الإدارية، ولو بأمتار قليلة، للعثور على سكن بأسعار مناسبة، فقد تُسحب إقامته ويفقد هويته المقدسية لأنه يجب أن يثبت أن المدينة "مركز حياته"، وفقا للقوانين الإسرائيلية ذات الصلة. وهناك بالفعل آلاف المقدسيين الذين سُحب منهم حق الإقامة في القدس منذ بدء احتلالها وتغيير معالمها، بسبب تلك الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية، فضلا عن التضييقات الإسرائيلية.
في متناول الجميع
لعل هدم المنازل والملحقات "المخالفة" هو أكثر ما يؤرق فلسطينيي القدس، ليس بسبب ما يتركه من أثر نفسي بالغ وطويل الأمد فحسب، بل أيضا بسبب الكلفة التي تصل إلى أكثر من 30 ألف دولار أميركي، إذا باشرت البلدية عملية الهدم، وهذا ما حدث مؤخرا مع المقدسي فخري أبو دياب، الذي اصطحبني لمشاهدة أنقاض منزله في حي سلوان، بعد أن هدمته البلدية بالكامل في فبراير/شباط لمخالفته قواعد البناء الإسرائيلية.
ولم يُخير أبو دياب بين الهدم الرسمي والهدم الذاتي، فالبلدية عادة ما تترك للمخالفين وفقا للقوانين الإسرائيلية خيار "هدم في متناول الجميع"، كما يقول أبو دياب ساخرا، أي يتكفل الفلسطيني بإجراءات الهدم بنفسه، كي يوفر الكثير من المصاريف في ظل أزمة اقتصادية خانقة، وهو بمثابة "تحطيم لمستقبله ومستقبل أسرته".
اللافت أن سياسة الهدم انتقائية وعشوائية، كما يصفها أبو دياب. فقد تُرك بيته وملحقاته الإضافية منذ صدور أمر محكمة بهدمه عام 2010، عندما بدأ في دفع مخالفات على أمل أن يتصالح مع البلدية، إذ دفع مبلغا إجماليا يقدر بنحو 85 ألف دولار كضرائب ورسوم خدمات تفرضها البلدية، وأتعاب محامين، للتكيف مع الواقع.
وتبدأ الأزمة في أغلب الأحيان بمجرد الانتهاء من البناء، فلا يُخالف من يُقدم على توسعة منزله أثناء عملية البناء، بل بعد أن ينتهي منه، إذ تبدأ دورة الملاحقة القانونية والمخالفات المالية، فيؤجل الفلسطيني الهدم لسنوات خلال فترة بقائه وعائلته في منزلهم، وكأنه "يشتري الوقت"، كما يقول أبو دياب، إلى أن يصدر قرار نهائي، ويكون وقتها مخيرا بين أمرين: أن يصبح مدينا بفاتورة الهدم الرسمية، وما يترتب عليها من إجراءات حكومية ومصرفية حتى تسوية الدين الهائل، إن استطاع، أو أن يهدم منزله بنفسه توفيرا للنفقات الباهظة.
ويقع منزل أبو دياب في حي البستان القريب من المسجد الأقصى، من الناحية الجنوبية، والذي تريد البلدية، في إطار خطتها العمرانية للبلدة القديمة، أن تحوله إلى حديقة تحمل اسم "الملك داود"، للحفاظ على المكانة التاريخية للموقع بحسب الرواية الرسمية الإسرائيلية التي تقول إن الحي الفلسطيني هو موقع "حديقة الملك داود اليهودية الأثرية".
ويقول أبو دياب، الذي ولد في المنزل ذاته عام 1962، أي قبل خمسة أعوام من بدء احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، إنه لم يستطع الحصول على إذن بالبناء من البلدية لتوسعة المنزل عندما تقدم بطلب للمرة الأولى عام 1987، رغم أن أرضه والمنزل الرئيس مسجلان كأملاك شخصية له ولعائلته.
وتحول منزل أبو دياب، الذي كان يؤوي ثلاث عائلات مكونة من عشرة أفراد، بينهم أربعة أطفال، إلى صالون ثقافي نظرا لموقعه الفريد وبعد أن أصبح متحدثا باسم أهالي حي سلوان المهددين بهدم منازلهم، إذ استقبل فيه سياسيين وسفراء بارزين، بينهم الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر. المفارقة أن وفدا أجنبيا رفيع المستوى ومكونا من سفراء دول غربية عدة، بينهم السفير الأميركي جاك لو، زار المنزل قبل أسبوع واحد من هدمه، للإعراب عن تضامنهم مع أهالي سلوان، ورفضهم تغيير معالم البلدة القديمة بالقدس.
ويقول أبو دياب: "أرسلت لي البلدية فاتورة جديدة بعد الهدم لدفع ضريبة المنزل للعام الجاري (2024) وقدرها حوالي 1400 دولار أميركي، على الرغم من أن المنزل كما ترى تحول إلى ركام. هل ترى تلك البناية المجاورة؟ كانت في الأصل من طابق واحد واليوم تتألف من ستة طوابق مخالفة بناها مستوطنون إسرائيليون، ومع ذلك لم تصدر البلدية أمر هدم بحقهم. هذا مثال بسيط ولكنه صارخ على الاضطهاد والعنصرية وغياب العدالة في آن معا. اليوم أصبحت لاجئا في مدينتي".
أول عملية هدم في القدس الشرقية
هناك إجماع بين المؤرخين والباحثين الإسرائيليين والفلسطينيين على أن أول عملية هدم في المناطق العربية بالبلدة القديمة منذ عام 1967 حدثت في حارة المغاربة الملاصقة للمسجد الأقصى وحائط المبكى في العاشر من يونيو/حزيران، عندما هدمت جرافات عسكرية إسرائيلية عشرات من الأبنية الأثرية في واحدة من أقدم حارات القدس.
يقول شمويل باهات، الباحث في شؤون الصهيونية، في ورقة بحثية في أرشيف "مطبعة اتحاد الكليات العبرية"، المكرس لجميع الدراسات العبرية واليهودية القديمة والحديثة، إن مسؤولين رفيعي المستوى في الحكومة الإسرائيلية آنذاك بقيادة ليفي أشكول صادقوا على أمر الهدم.
وفي الورقة البحثية، التي حصلت "المجلة" على نسخة منها، خص الباحث الإسرائيلي بالذكر رئيس بلدية القدس تيدي كوليك، الذي اشتهر بلقب "مهندس الاحتلال" في البلدة القديمة، والجنرال عوزي ناركيس، قائد المنطقة الوسطى في الجيش الإسرائيلي خلال حرب 1967، والذي رُفعت صورته في القدس بعد احتلال المدينة. ويناقش بحثه بصورة أوسع مصير سكان الحي الذين هُجروا قسريا سواء خارج المدينة أو إلى الأردن والمغرب، بالإضافة إلى مظاهرات لليهود والعرب للتنديد بعملية الهدم.