لا تحظى الحرب الدائرة في الجنوب اللبناني، منذ 7 أشهر، بتغطية إعلامية منصفة، رغم عدد ضحاياها غير القليل، وفداحة خسائرها على الصعيدين الإنساني والاقتصادي. وترجع الأسباب إلى عوامل كثيرة، منها الحرب على غزة، ومنها سياسة التعتيم الإعلامية التي يفرضها "حزب الله" في نقل الوقائع الميدانية.
وفي زمن الحرب، يُمنع على الصحافيين الدخول إلى منطقة جنوب نهر الليطاني الذي يبعد مجراه عن أقرب نقطة حدودية نحو 20 كيلومترا عند "بوابة فاطمة"، إلا بعد التنسيق مع ثلاث جهات: الجيش اللبناني، وقوات الطوارئ الدولية (اليونيفيل)، و"حزب الله"، حفاظا على أرواحهم بالدرجة الأولى، و"حرصا على نقل الصورة الصحيحة عن الحرب الدائرة في المنطقة". ثانيا، وهذا ما يشترطه الحزب وحده.
وللحصول على إذن العبور يتم التواصل أولا مع الجيش الذي يبلغ الجهتين الأخريين، أما من يملك علاقات جيدة مع "الحزب"، فيتواصل مباشرة مع "الرابط" أي مسؤول المنطقة، الذي يرسم له خريطة شفهية للتجول، تتضمن المسالك والمعابر الآمنة البعيدة عن مرمى النيران الإسرائيلية، وخريطة أخرى أمنية، تتضمن توصيات أو أوامر بعدم توسيع عدسة الكاميرا أثناء تصوير مشاهد الدمار والأضرار، أو أخذ التصريحات من السكان بشكل عشوائي.
أُسقط منذ الأيام الأولى للحرب، الشرط الأول للتنسيق، بعد مقتل ثلاثة صحافيين (عصام عبد الله، وفرح عمر، وربيع المعماري)، باستهدافات مباشرة اتهمت بها إسرائيل، وتحت أنظار الجهات الثلاث. أما الشرط الثاني، فلا يزال ساري المفعول، بل بات أكثر حزما مع اشتداد الحرب وتوسع رقعتها، فمن خلاله يمكن لـ"الحزب" إخضاع محتوى الخبر والصورة لرؤيته الأمنية والسياسية، والتحكم في المعلومات والوقائع التي يتم نشرها عن الأوضاع في المنطقة.
لتلافي هذه الدوامة، قررنا زيارة المنطقة بصفاتنا الأهلية. الشابان اللذان يرافقانني أبلغا الجندي على حاجز الجيش، والذي لم يلتفت إلي، إنهما يقصدان المنطقة لتفقد منزليهما، وبعد توصيات لطيفة بالحذر الشديد وتمنيات السلامة وإشارة من يده، دخلناها رافعين علامات النصر المعنوي.
تجاوزنا نقطة قوات الطوارئ بسلام أيضا، وتابعنا صعودا في طريق مقفرة وموحشة لندرة سالكيها. السيارة تنهب الأرض نهبا حرفيا، وهدير طائرات الاستطلاع يصم الآذان ودوي الانفجارات يتردد في الأرجاء، أولى محطاتنا كانت كفر كلا المواجهة لمستعمرة المطلة الإسرائيلية، الطريق إليها كان سالكا لكن غير آمن، لذلك دخلناها تسللا من جهة بلدة دير ميماس، محتمين بأشجار الزيتون التي أمنت لنا غطاء نفسيا على الأقل، مقابل الطريق الرئيس المكشوف بشكل سافر للطائرات الإسرائيلية. تجولنا في أحيائها الخلفية، لم نعثر على أحد لنجري معه حديثا، والعدد المحدود ممن بقي من سكانها، يعيش صدمة ما بعد الغارة، التي طالتها فجرا، وخلفت قتيلين حزبيين ودمارا إضافيا.
يوم أسود... آخر
من كفر كلا توجهنا نحو الخيام، التي كانت تشهد يوما آخر أسود من أيام الحرب، القصف على أحيائها ووديانها وتلالها، لم يهدأ منذ البارحة، والغارات ليلا استهدفت مواطنا في سيارته، فوُجد جثة هامدة في الصباح. لم تكن بلدة الخيام يوما بعيدة كما بدت اليوم، ولم يكن الوصول إليها يحتاج إلى هذا الحجم من المجهود النفسي والعصبي الذي بذلناه. طوال الطريق لم نلتقِ بسيارة مدنية واحدة ولم نلمح خيال عابرٍ، كنا وحدنا ثلاثة مدنيين في سيارة صغيرة لا ترفع علما أبيض أو إشارة تدل على حيادها، وفوقها تتبختر كل أنواع الطائرات الإسرائيلية، وتقذف حممها بكل الاتجاهات.