زَاوَجَ العديد من الكتاب والشعراء والمفكّرين بين الكتابة والرسم، في نزوعٍ إبداعي مطّرد، واظبوا عليه طوال مسارهم في الخلق الفنّي والأدبي، وإن رجحتْ علامة الكاتب/ الشاعر/ المفكّر حاجبةً علامة الرسام، وهذا ما نلفي له أثرا واسع التداول، من قبيل ألمعِ الأمثلة: غوته، وليم بليك، جبران خليل جبران، شن شو، هانز كريستيان أندرسن، فولتير، طاغور وغيرهم.
يمكن فرز ثلاثة وجوه من العلاقة بين الكاتب والرسم، في أعقاب ازدواجية أو متلازمة الكتابة والفن التشكيلي، على سبيل الفصل:
الوجه الأول، يختصّ به كتّاب (شعراء، مفكّرون، روائيّون...) جعلوا من فنّ الرّسم ممارسة جمالية -جوهرية- تتماهى مع فن كتابتهم، إذ أن هذه الثانية لا تتعالى على الأولى، والعكس صحيح. بالرسم والكتابة معا، بوتيرة متبادلة وهارمونية في آن واحد، ظل الاسم الإبداعي لهؤلاء هو نفسه، ما أن تُذْكر علامته، حتى يُحيل بشكل مزدوج على الواحد منهم، رسّاما وكاتبا في الآن نفسه.
الرسم والكتابة في هذه الحالة الوجودية، يتقدمان كهوية إبداعية مشتركة لصاحبها، حتى يصعب الفصل بينهما كلما تعلّق الأمر بتوسيمه أو توصيفه. الكاتب نفسه، لا يتنكّر لرسمه، بل يوليه القيمة الخطيرة التي يوليها لكتابته، بالشكل الذي يصيران معا تجربة جمالية موحدة، هذه تضيء تلك، أو تلك تكمّل هذه، أو كلتاهما تنفصلان وتتصلان في آن واحد، ما يشبه لعبة إيهاميّة في ما بينهما.
الرسم والكتابة في هذه الحالة الوجودية، يتقدمان كهوية إبداعية مشتركة لصاحبها، حتى يصعب الفصل بينهما
الوجه الثاني، يختصّ به كتاب (شعراء، مفكرون، روائيون...) جعلوا من فن الرسم ممارسة جمالية هامشية، إذ انحازوا الى كتابتهم أكثر مما انتصروا لإبداعهم الفني التشكيلي، بل إن بعضهم لم يُعرف عنهم أنهم زاولوا رسما حتّى، والمصادفة وحدها هي التي كشفت ولعهم بهذا النزوع من الخلق الفني، أو سيرهم الذاتية في ما بعد، يومياتهم، إن لم يكن المقربون من الأصدقاء الخُلّص من أفشى ذلك للمرة الأولى، سواء كانوا قيد حياتهم أو بعد مماتهم.
ملاذ شخصي
هذا النوع من الرسم الذي واظب عليه هؤلاء في صمت، في عزلة، في سرية تامة، كان محض هواية، لعبا، ملاذا شخصيّا، عزاء، صلاة، طقسا حميما... لم يشأ مقترفوه أن يُذاع للعلن.
قد يكون التستّر على هذا النوع من الرسم الذاتي الصامت، مسألة شخصية تجد لها تفسيرا في كون المبدع يمارس فنّا مستأثرا به لنفسه لا غير، أو يراه بغير ما قيمة فنية عالية تعادل قيمة ما يكتب مثلا، أو لا يدرك خطورة ما يجترحه من أثر جمالي... في المقابل قد يكون مدركا قيمة ما ينجزه سرّا من أعمال فنية، لكنه لا يشاء لها أن تزاحم أعماله الكتابية التي يُنذِر لها جذرية تفكيره وابتكاره، أولوية تخييله وإنجازه... وفي كلّ الأحوال يظلّ رسمه أثرا فنّيا ملحقا إلى كتابته ما أن يتمّ اكتشافه وإعلانه، وما يشفع لممارسته الفنية هذه احتكامها إلى قلق ذاتي وجودي يصلها بالشكل الجمالي الذي خاضت فيه رسما، ولو بتستر وصمت وسريّة.
ثم الوجه الثالث الذي اختصّ به كتاب (شعراء، مفكرون، روائيون) جعلوا من فن الرسم ممارسة تلفيقية، تجارية، استعراضية في الغالب، إذ راهنوا على اسمهم الأدبي في اختلاق أعمال رسم هدفها الربح لا غير.
سيكون من قبيلِ لفتِ الانتباه الإشارةُ إلى نخبة من الأسماء الروائية والشعرية والفكرية اللامعة التي عُرفت بمنجزها السردي والشعري والفلسفي أكثر ممّا عرفت بمنجزها الفني ضمن تخييل الرسم:
فبالقدر الذي كان غارثيا لوركا شاعرا ومسرحيّا وموسيقيّا، كان رساما أيضا، بل شارك في معارض جماعية، كما أنجز أخرى فردية في غرناطة وبرشلونة، أكثر من ذلك نشرها في كتاب مفرد، وأمست في ما بعد غلفا لدواوينه ونصوصه المسرحية.
الرسم والكتابة في هذه الحالة الوجودية، يتقدمان كهوية إبداعية مشتركة لصاحبها، حتى يصعب الفصل بينهما
معظم رسومات لوركا تتأرجح بين روح لعب الطفل وجدية العمل الرمزي والأيقوني، فمنها الأسلوب الكاريكاتوري والتجريدي، ومنها فن الديكور المنزلي، فضلا عن البورتريه الذاتي والغيري، وإن صنّفه النقاد أكثر ضمن التجريد الغنائي.
كذا الكاتبة جورج صاند، الاسم المستعار لأمانتين لوسيل أورو دوبين، أبهرت معاصريها بأعمالها التشكيلية التي ابتكرت فيها تقنية التغضنات (مصطلح مشتق من دراستها للتاريخ الطبيعي وعلم المعادن ويشير إلى أنماط متفرعة تشبه أغصان الشجرة)، باختلاق عملية الضغط على بقع الصباغة بورقتين، وحين رفع الواحدة عن الأخرى تعمل على القطعة المجردة بألوان مائية محولة إياها إلى مشاهد طبيعية، جبال وبحيرات وأنهار.
هسه ولورنس وميلر
في المقابل، نادرا ما عرف عن الروائي الألماني هرمان هسه إبداعه الفني التشكيلي، وقد مارسه في انعزال بعد المضاعفات الوخيمة للحرب العالمية الأولى على نفسه، وكان الرسم عزاء وملاذا، نشأ كولع ذاتي، كهواية صامتة، سرعان ما تحوّلت إلى احتراف موازٍ، وقد تأرجح مجمل عمله بين الانطباعية والتعبيرية في مقامه أو منفاه بالأحرى في كانتون تيتشينو بسويسرا حيث استقر منذ عام 1919.
الشيء نفسه التزمه الروائي دي إتش لورنس في الطور الأخير من حياته، بتأثير من سفره إلى فلورنسا، إذ فاجأ المشهد اللندني بتجربة تشكيلية اختار أن تكون زيتية على مقاس جرأة نصوصه الروائية، وقد عرض لوحاته في "دوروثي وارن"، وصادرت الشرطة غالبية لوحاته الصادمة، بعدما خلقت رجة في الذائقة المحافظة التي وصمتها بالإباحية، فمثلما عانت نصوصه الروائية من فداحة الرقابة، كذلك عانى فنّه.
أمّا هنري ميلر فقد شرع في الرسم عام 1928، منجزا أعمالا فنية مائية بغزارة يقدرها البعض بـ2000 لوحة، وعن ولعه بالفن التشكيلي أصدر كتابا ثريّا تحت عنوان "الرسم هو الحب مرّة أخرى" يتضمن مجمل رؤاه حول العمل التشكيلي هذا الذي يلوذ إليه عندما يعجز عن الكتابة وفق اعترافه. وفي "الملاك هو علامتي المائية"، يفصح ميلر عن تكوينه الفوضوي، عن اندفاعه الغريزي في الرسم دونما تخطيط أو تصميم، دونما خوف من الأخطاء المرتكبة، بل فلسفته كامنة في أن يبتهج بقدر ما اقترف هذه الزلات التي يوليها عناية المدح، وقد ألفى في اللون المائي ما يعادل السوناتا وخفة الهايكو. لم يقف عند حدود رسم الحيوانات والمشاهد الطبيعية، وأبدع في رسم الوجوه، معظمهم لأصدقائه من الكتاب والشعراء والموسيقيين والرسامين أنفسهم، وإن أنجز ميلر لوحاته بحرية الطفل المشاغب، منتصرا كلية للعب، وهو يستغور ذاته، مطلقا العنان لهوامش يومياته أن تتفجّر مثل بركان، ففي المقابل جعل أعماله هذه رهن مقايضات لمتطلبات حياته، فضلا عن نذرها كهدايا للمقربين من أقدر أصدقائه.
يفصح ميلر عن تكوينه الفوضوي، عن اندفاعه الغريزي في الرسم دونما تخطيط أو تصميم
سيلفيا بلاث هي الأخرى خلقت ظلالا موازية لقصائدها في اللوحات التجريدية، بالقدر نفسه الذي خلقت ظلالا للوحاتها في شعرها، وقد رسمت بغزارة منذ طفولتها وَلَمْ تَرْعَوِ زهرة فرشاتها على الاشتعال حتى حادثة انتحارها المأسوية.
وكذلك كان ولع مواطنها جاك كيرواك بالرسم فضلا عن الكتابة الشعرية، حتّى أنّ لوحة غلاف روايته الشهيرة، "على الطريق"، كانت من إنجازه وهي تشخيص لوجه شقيقه جيرارد.
جبرا وإيتل عدنان
عربيّا يمكن التمثيل لهذا المضرب الفني المشتبك في انزياحه بالكتابة، بنموذج الروائي الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا الذي شرع في الرسم منذ البداية في بيت لحم متأثرا بالأسلوب الوحشي ، قبل أن يثوّر أشكاله الفنية مع تجربة الدراسة في إنكلترا، وكان لتجربة إقامته في العراق التحوّل الجذري من الأسلوب الأربعيني والخمسيني إلى طليعة أسلوب تعبيري، مع استثماره لجماليات الرمزية والتجريد في آن واحد، خاصّة مع "جماعة بغداد للفن الحديث" التي كان من مؤسسيها مع الفنان التشكيلي العراقي جواد سليم، فاتسمت أعماله بالاختزالية، مع الاحتفاء بالمرأة كموضوعة مركزية في معظم منجزه. من المعروف أنّ جبرا إبراهيم جبرا لم يكتف بالفن التشكيلي إبداعا، بل أصدر كتبا نقدية طليعيّة هي الأخرى، مثل "جواد سليم ونصب الحرية" 1974، "جذور الفن العراقي" 1980، "الفن والحلم والفعل" 1986...
لا تستقيم قائمة هذه المنتخبات دون ذكر الشاعرة اللبنانية إيتل عدنان، المولعة في رسمها التجريدي بين الجبل والبحر خاصّة، وجماليات الطبيعة عامّة، وهي نموذج آخر لشعرية البساطة الممعنة في لانهائية الأغوار. في لوحات إيتل عدنان تتعالق العناصر بغنائية في خلق المشهد المنظور إليه من خلال شرفة عالية، وفق نزوع هندسيّ يذكرنا ببول كلي وكاندينسكي، غير أنها هي نفسها، تفصح عنها بهجة عوالمها الرقراقة بين بيروت وكاليفورنيا، حيث الطفلة شاخصة بملء ألقها وراء اندلاق اللون، وخرائطية الخطوط، وهارمونيا الأشكال.
لا حديث عن الكُتّاب الذين هاجسهم الرسم ومارسوه بطقوسية، كلٌّ بحسب ولعه واحترافه في آن واحد، إلا وتطفو إلى السطح أشباح مراسمهم، أطياف ألوانهم أو تخطيطات بورتريتاتهم وسديم أشكالهم، ومنهم فيكتور هوغو، وتوماس هاردي،وأوغست سترندبرغ، وفرانز كافكا، وتينيسي وليامز، وأندره بروتون، ورفائيل ألبرتي، وجوزيف كونراد، وشارل بودلير، وتشارلز بوكوفسكي، ومحمد المرابط، وغونتر غراس، وجان كوكتو، وسليم بركات وعبد اللطيف اللعبي... وآخرون.