وفي حين يرى بعضهم أن هذه المجموعات والنقاشات التي أتاحتها مواقع التواصل الاجتماعي تدفع بعض الناس إلى تقليب أفكارهم المتشدّدة وطهيها مجددا على موقد الاعتدال وتخفيف حرارة تعصبهم الديني، يرى آخرون أنها تساهم في تشكيل آراء إلحادية ونابذة لكل أنماط التديّن، حدّ المغالاة.
وقد ساهم الاستخدام الحر والواسع لمصادر المعلومات عبر الإنترنت والقدرة على اختراق المواقع المحجوبة، في تشكيل وعي جديد وإعادة إطلاق الأفكار القديمة في قوالب عصرية، لا سيما لأولئك الأشخاص الذين اعتادوا استقاء معلوماتهم من مصادر أحادية الجانب، إضافة إلى حدوث انقلاب في الموازين الاجتماعية كوصول أعداد من الشباب الذين ينحدرون من عائلات محافظة إلى أوروبا، مما ساهم في تحررهم من بعض القيود الدينية والاجتماعية التي قد تكون فرضت عليهم منذ الصغر، سبيلا للاندماج في المجتمعات الأوروبية وتوسيع خياراتهم الفردية.
إذن، سمحت حالة الحرية التي وفرتها مواقع التواصل الاجتماعي، للأفراد بالتعبير عن الرأي والرأي المضاد، ولم يعد تداول المعرفة الدينية في سوريا، كما في العالم العربي، حكرا على المؤسسات الدينية الرسمية. هذا ويغلب على بعض المجموعات "الفيسبوكية" طابع السخرية على نحو واضح، فكثيرا ما تستعين بالرسوم الكاريكاتورية كأداة من أدوات التعبير عن الرأي وتوظيفها في أهدافها التي تنصب في السخرية والنقد من طبيعة دينية أو سياسية، وتصل أحيانا إلى حد الإسراف، وذلك لتحقيق أغراض التحجيم أو التقزيم وكسر حاجز الرهبة من مناقشة ما كان محظورا.
تشظي المشهد الديني
على الرغم من أن الديانة الإسلامية هي أكبر الأديان في سوريا وأكثرها انتشارا بغالبية ساحقة تصل إلى 70% من العرب وحدهم، كان المجتمع السوري يعتبر مجتمعا معتدلا دينيا باستثناء بعض المحطات التاريخية التي أثبتت العكس، بما فيها الحرب الأخيرة، إلى جانب عدم السماح للحقل الديني بالنمو والتوسع، وإحكام القبضة الأمنية عليه. عدا ذلك، اعتاد السوريون لعقود من الزمن استقاء معلوماتهم وتوجيهاتهم الدينية من المؤسسات الدينية التقليدية بوصفها الجهة الشرعية الموحدة للجميع، وتتمثل في وزارة الأوقاف وأذرعها، غير أن تحديثات جديدة طرأت على المشهد الديني السوري خلال سنوات الحرب، مفسحة في المجال لصعود سريع للحركات الدينية في البلاد وانتشارها في رقع جغرافية متنوعة ديموغرافيا، تناوبت على نشر الفتاوى الشرعية حدّ التفنن. فوجد السوريون أنفسهم أمام أطياف واسعة من أصحاب الخطاب والتفسير الدينيين بعدما كانوا معتادين على سلطة دينية واحدة، فلم تعد البرامج الدينية خلال شهر رمضان وخطب الجمعة المخصصة غالبا للسلوكيات الأخلاقية والاجتماعية، مصدرا ملهما لهم، لتتكاثر الاجتهادات الفقهية عبر تنظيمات سلفية متشددة، وليزداد عدد منتجي المعرفة الدينية، فبات كل فريق يروج لسلعته الدينية لجذب المريدين له. ففي حين شغل "الجهاد" ضد إسرائيل المشهد الديني لسنوات طويلة، بوصف إسرائيل عدوا واضحا صريحا، انتقل هذا العمل الحركي نحو الداخل المحلي وتفرّعت الفتاوى القتالية وفق مصالح كل جهة تقودها، ليأخذها بعض السوريين ممن كان لديهم استعداد فطري لذلك بحذافيرها ودقائقها، بينما أدار البعض ظهره للدين حتى إشعار آخر، فكانت حالة الحمى الدينية والتصارع المستمر لجميع الأطراف على المنهج الأصح وادعاء الصواب، وتنامي الخطاب الديني المتشدد، سببا رئيسا دفع بالكثير إلى تحميله مسؤولية تفاقم الحرب في سوريا.
إلى جانب ما ذكر، سيق المجتمع السوري إلى منحدر من الانقسامات الطائفية وحالة من التشتت الديني فرضها النزاع المستعر الذي وضع المجتمع في استقطابات دينية وطائفية سياسية يصعب الفكاك منها، بين مؤيد ومعارض، وإسلامي متشدد وعلماني متحرر، وبين داخل وخارج.
تجارب شخصية
أنتجت الحرب السورية نمطا فكريا مغايرا لم يكن سائدا إلا في دوائر معينة، وخلقت ردود أفعال متباينة إزاء الدين، بما يشبه حالة تمردية على السلطة الدينية، وتولّد عن ذلك سعي كثيرين من الشباب إلى الحصول على إجابات مختلفة عن أسئلتهم الوجودية، لتشيع نزعات لا دينية يغلب عليها طابع التشكيك، محملة الدين مسؤولية الحرب والعنف. لكن ما هي دوافع بعض السوريين للتخلي عن راية الدين على الرغم من نشأتهم منذ نعومة أظفارهم على الأفكار الدينية وارتياد المساجد وتحولهم الجذري إلى الضفة الأخرى؟
قطعت ولاء، وهو الاسم الذي ترغب هذه الفتاة في استخدامه دون اسم عائلتها، الخيط الأخير الذي يربطها بالدين منذ قرابة سبع سنوات بعد معاناة طويلة، جراء تطرف والدتها وعائلة زوجها الذي ازدادت حدّته مع اندلاع الحرب السورية، وتأثرهما المتطرف بالفتاوى الشرعية والانصياع الأعمى لشيوخ الفضائيات، فلم تكن عبارة "أنت كافرة" تمرّ مرور الكرام، بل كانت تترجم بالضرب المبرح مع كل نقاش تدافع فيه عن الآخر غير المبرمج على إعدادات التدين وتنتقد فيه محاولات التأجيج الطائفي. تقول الشابة العشرينية لـ"لمجلة": "فرض زوجي عليّ النقاب ومنعني من ارتياد الجامعة ومتابعة الدراسة بحجة أنه حرام ولا يجوز الاختلاط، وذلك بموافقة أمي التي اقتنعت أنه يلتزم حذافير الدين، كان يضربني عندما احتج على رأي ديني يفتي بسبي النساء اللواتي ينتمين إلى ملل دينية مختلفة. النساء بالنسبة إليه، خلقن لطاعة أزواجهن فقط وتنفيذ أوامرهم دون نقاش".