يحيا الشعر على التمرد، أي الخروج على النظريات أو القوانين التي تحاول أن تضع له التحديدات والضوابط، أو تسعى إلى توجيهه انطلاقا من أفكار أو معتقدات جاهزة. والشعر، الذي يسعى في طبيعته إلى التجديد والابتكار، كثيرا ما يتعرض للتضييق عليه من ناحية القِيَم السائدة والقائمين عليها، فيجد نفسه في مواجهة التقاليد على أنواعها. والشعر العربي منذ بداياته عرف الكثير من المصاعب التي اعترضت سبيله، وفي الأخص من الجهات التي حاولت توظيفه لهذه المصلحة أو تلك. فلم يجد، في مراحل ازدهاره وتألقه، سوى سبيل التمرد، لكي يقاوم ضد الجمود والتقليد، لكي لا يستسلم لِما هو مغلَق أو نهائي.
ما قبل الإسلام
الشعر، في ما عُرف بالعصر الجاهلي، الذي يضم أولى القصائد التي وصلتْنا ووجدنا فيها بدايات ما نعرفه من الشعر العربي، ينطوي في مجمله على نزعة إلى الانعتاق والتمتع بالحرية والإقبال على الحياة. وهذه النزعة تظهر بوضوح في المعلقات، التي هي قصائد طويلة تتشابه في الظاهر، وتختلف الواحدة عن الأخرى في العمق، اختلافات ليست بالقليلة.
فالمعلقة التي تحتوي على أغراض معروفة، كالوقوف على الأطلال وتذكّر الأحبة، ووصف الطبيعة أو الحصان، والتغزل بالحبيبة أو الحبيبات، والكلام على الحرب أو السيل ... أو غير ذلك، تنحو نحو التعبير عن جانب أساسي من جوانب الحياة العربية في المجتمع القبَلي في الصحراء، فيربط بين أجزائها أو مقاطعها خيط من الدلالات التي تُفضي إلى ذلك الجانب الذي تنحو نحوه. في ضوء هذا، من يتعمّق في قراءة المعلقات، يلاحظ مثلا أن معلقة طرفة هي قصيدة الفرد أو الفردية، ومعلقة لبيد هي قصيدة الرجولة، ومعلقة عنترة هي قصيدة الفروسية، ومعلقة عمرو بن كلثوم هي قصيدة الجهل (بمعنى الشدّة أو البأس)، ومعلقة الحارث بن حلّزة هي قصيدة المسؤولية، ومعلقة زهير هي قصيدة العقل أو التعقل، أما معلقة امرئ القيس فهي قصيدة الوجود أو التأمل الوجودي...الخ. هكذا تكون المعلقات غير متشابهة في العمق، وإن كانت متشابهة في أغراضها. وهذه الأغراض ليست سوى عناوين كبيرة، ففي تناولها من قِبل شعراء المعلقات، تظهر التباينات أو التمايزات الكبيرة. فحصان امرئ القيس لا يشبه حصان عنترة في شيء، والحب عند الأول لا يشبه الحب عند الثاني في شيء... وهكذا نجد الشاعر الجاهلي سيد موضوعه، يظهر من خلاله كأنه ينصّ على القِيَم بدلا من الخضوع لها. هو الذي يوجِّه، وليس الذي يتلقّى التوجيهات.