اعتادت مقالات الرأي على نقد السياسة الإيرانية، وعاد الحديث عن النظام الإيراني إلى الواجهة مجددا مع الأحداث المشتعلة في الشرق الأوسط، ولكنّ هناك سؤالا استراتيجيا بعيد المدى، هل استقرار المنطقة يكمن في تغيير النظام الحالي في إيران الذي تأسس على ثورة 1979؟ أم على بقائه مع الحد من قدراته، ورغبته التوسعية؟
هذا السؤال الكبير، يشبه بعض الشيء ما طرح زمن الاتحاد السوفياتي في الثمانينات في الأوساط السياسية، حين أرادت الولايات المتحدة الأميركية الإبقاء على الاتحاد ضعيفا دون الوصول إلى نقطة انفراطه، وذلك لأسباب، من أهمها بقاء الوحدة السياسية في التعامل معه، بدل التعامل مع كل دولة منه على انفراد.
لقد سبقت المظاهرات في إيران ما حدث في المنطقة العربية سنة 2011، حين اجتاحت إيران موجة كبيرة من الاحتجاجات في 2009-2010، وتم قمعها بقوات الباسيج بقسوَة، وتعتبر المعارضة الإيرانية قوية مقارنة بغيرها، وتكتنفها نزعة قومية فارسية، وخطاب علماني، ويعيش معارضون كثر منذ سنوات في أوروبا، وفيها طوروا آراءهم السياسية، ووسعوا من علاقاتهم، فلا يعارضون إقامة علاقات مع إسرائيل وأوروبا والولايات المتحدة الأميركية، ولا يخفون إعجابهم بالغرب. فثوريتهم مرتكزة على تصورات أوروبية يمكن أن نجد أصولا لها في فرنسا تاريخيا، في الثورية الليبرالية السياسية.
الإطاحة بالنظام الإيراني تعني انفراط عقد الجماعات الموالية لطهران في العراق ولبنان وسوريا واليمن وغيرها
فماذا لو أطيح بالنظام الإيراني بمظاهرات وثورة، ثم قطف ثمارها هؤلاء المعارضون، هل سيكون هذا هو البديل الأفضل لاستقرار المنطقة؟ السيناريو الأعلى ترشيحا، أن هذا سيكون مجلبَة لعدم الاستقرار، فإنه يعني انفراط عقد الجماعات الموالية لإيران اليوم، سواء في العراق ولبنان وسوريا واليمن وغيرها، وتضحي هذه الجماعات مثل الشظايا اليسارية التي ارتبطت بالاتحاد السوفياتي سابقا، مع فقدان الرأس السياسي الذي يمكنه السيطرة عليها، وقد تنقلب إلى تبعية لدول أخرى. والأمر شبيه بحال الكثير من الثوريين اليساريين في المنطقة العربية حين انتقلوا إلى صف ما سمي "الصحوة الإسلامية"، فما إن انكب الروس على الاهتمام بشأنهم الخاص، وانقطع الدعم عن التنظيمات اليسارية، حتى واجهت المنطقة ثورية من نوع آخر، متأثرة بالخطاب اليساري المناهض للحداثة الرأسمالية، لكن بنزعة تستعمل الخطاب الديني، وهو ما جر على المنطقة موجة جديدة من العنف وعدم الاستقرار.
ولو نجحت المعارضة الإيرانية في تكوين نظام جديد فإن نموذجها قد يلهم غيرها في المنطقة العربية، بشعاراتها التي تدعو إلى الثورية لتحقيق أهداف سياسية، فيكون الأمر شبيها بمفعول الثورة الفرنسية 1789 في أوروبا، من حيث زرع معاداة الأنظمة الملكية، والسعي لتقييد السلطات، والرقابة الجماهيرية، وغير ذلك من الأحلام والشعارات الملازمة لكل حالة ثورية. فإنْ كانت المعارضة الإيرانية مدربة بصورة كافية عبر عيشها وتعليمها في أوروبا، فإنها حينها تكون بوابة جديدة لثورية علمانية في المنطقة العربية.
ورغم أن كثيرا من المعارضين الإيرانيين اليوم لا يخفون تعاطفهم مع أيام الشاه قبل الثورة الإسلامية في إيران، فإن هذا لا يعني أن ما سيعود هو نظام الشاه، فذلك بعيد ولا يتفق مع شعارات المعارضة، إنما يستلهمون بعض ما كان أيامه، كالانفتاح على إقامة علاقات مع إسرائيل. وعادة ما تكون السلطة القادمة بثورة، مشبعة بشعارات أعلى صوتا من المحلية التي تتحرك فيها، فترفع شعارات عامة، لتلقى التعاطف الدولي، ولتمنح أنصارها بعدا من الرسالة التاريخية الدافعة لهم ليتحركوا. وهذا يعني إطلاق حزمة جديدة من الشعارات الثورية، وتكون مرتبطة بالثورية الليبرالية السياسية، وليس الانحصار في الاجتماعية منها.
وقد ضمن موقع إيران الاستراتيجي عقد اجتماع فيها غير وجه العالم، وهو مؤتمر طهران 1943، حين اجتمع القادة الثلاثة: ستالين، روزفلت، تشرشل، في أول اجتماع للحلفاء في الحرب العالمية الثانية. وهذا الموقع هو الذي جعل النظام الإيراني اليوم مرتبطا بعلاقات قوية مع الصين وروسيا، وأي بديل متقارب مع الولايات المتحدة يعني تغيرات عاصفة في موازين المنطقة السياسية، وتحويل إيران إلى ساحة مواجهة ضد الخيارات الروسية والصينية، وهو ما يشبه حال ألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية 1945.
يبدو أن بقاء النظام الإيراني الحالي مع إضعاف نفوذه أكثر ضمانا للاستقرار في المنطقة
إذ نشأ في ألمانيا صراع بين الكتلتين الشرقية والغربية، ومثل جدار برلين الحد الفاصل بين حدود الاتحاد السوفياتي ونفوذه، وبين العالم الغربي المناهض للشيوعية، وانعكس ذلك على عدة أمور، ومنها غض الطرف عن قيود التسلح المفروضة على ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب. فصارت ألمانيا الغربية جزءا من اتفاقات عديدة، بداية من اتحاد أوروبا الغربية 1948، ثم اتفاق باريس 1951، ثم انضمامها إلى حلف "الناتو" في 1955، وهكذا كانت ألمانيا المهزومة تتجاوز قيود التسليح المفروضة عليها بعد الهزيمة في الحرب العالمية 1945، عبر الدخول في حلف ما بعد الحرب، فيما عرف بالحرب الباردة.
إن وصول المعارضة الإيرانية للحكم يعني دخولها في حرب باردة مع روسيا والصين، لصالح أوروبا والولايات المتحدة، وهو ما ستكون له عواقب على الدول المحيطة، من حيث غض الطرف عن التسليح الإيراني مقابل التهديد الروسي والصيني، فضلا عن الشعارات الليبرالية الثورية التي قد يصدرها النظام الإيراني العلماني القادم في وجه الخليج، والدول العربية المجاورة. فالحرص على النفوذ لن يكون حكرا على شعارات الثورية الخمينية التي استلمت الحكم في 1979، ففي الجوار تركيا التي حرصت على مد نفوذها في المنطقة العربية، والمشاركة في سوريا وليبيا وغيرهما دون حدوث تغيرات جذرية في بنية النظام العلماني في تركيا، رغم أنها ليست نظاما ثوريا، فكيف لو قُدر وصول نظام بطريقة الثورة في إيران؟ ولذا يبدو أن بقاء النظام الإيراني الحالي مع إضعاف نفوذه أكثر ضمانا للاستقرار في المنطقة.