على مدى التاريخ الإسلامي، حفل مفهوم "الدولة" بالكثير من التجاذبات الكلامية والفقهية والتي كشفت عن أزمة حقيقية في التفريق بين الديني والدنيوي. يرجع ذلك لسيطرة مسألة "الخلافة" على تصور الدولة الإسلامية عند النُخب التي ناقشت فكرة الدولة، سواء في العصور القديمة، أو العصر الحديث (أي مرحلة ما بعد الصِدامِ مع أوروبا وانهيار آخر دولة تعتبر نفسها خلافة إسلامية).
يجدر التنويه إلى مسألة انشغال الفقهاء بموضوعات ترجع لعهود قديمة بدلا من محاولتهم إعمال الفقه في الواقع المُعاش اليوم. فكما أن موضوع زكاة الإبل والزرع أصبح مقصورا على فئات محددة من مجتمعات محدودة ولم يعد هو الحالة السائدة عند عموم المسلمين، فإن موضوع "الدولة الإسلامية" لم يعد هو الواقع الذي تعيشه معظم البلدان ذات الأغلبية المسلمة.
نأخذ هنا على سبيل المثال مفهوم "السيادة" عند دارسي العلوم السياسية والذي يوصّفُ سلطة الدولة المحدودة داخل إطار جغرافي يعيش فيه مجموعة من البشر (أي المواطنين). وفي ظل غياب مفهوم السيادة في الأدبيات الإسلامية، يحضر مفهوم الحاكمية بوصفه المصطلح الذي يشير إلى الحق في الحكم وسنِّ القوانين.
وقد وصف أبو حامد الغزالي الحاكمية بأنها "طاعة الله وطاعة من وجبت طاعته عند الله" استنادا إلى الآية القرآنية (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلا) (سورة النساء 59). وعليه، فإن الله هو مصدر الحاكمية، ولا تستمد الحاكمية إلا منه ثم من رسوله، ثم ممن يتولى "الأمر" من بعد الرسول حيث يجب على الجميع طاعته.
لا يوجد اليوم من يقاتل لمجرد إثبات شرعية خلافة أبي بكر أو إمامة علي، وإنما تتم تعبئة العامة من أجل ما يُراد له أن يترتب على الخلافة والإمامة
بناء على التراث الديني، تم تشكيل مصطلح ولي الأمر- وهو الشخص الذي يتولى "الأمر" نيابة عن السلطة المقدسة (الله والرسول)، وبالتالي فإن سلطته في المجتمع الإسلامي مطلقة. وهكذا، فيما يتعلق بالعلاقة بين الدولة والدين. وقد بنى على مفهوم الحاكمية مجموعة من الإصلاحيين الإسلاميين الذين دعوا لإقامة الدساتير التي تحاول المزاوجة بين الدولة والتصور الفقهي للحكم.
وكما هو الحال مع مصطلح السيادة، فإن مصطلح "السلطة" بمفهومه السياسي الحديث ليس حاضرا في الخطاب الديني. الأمر واضح جدا، فمفهوم الوطن الجغرافي يتداخل مع مفهوم الأمة بشكل يجعل مسألة الحكم/النظام السياسي مرتبطة بمسألة موضوع نطاقه الدولة الوطنية/الأمة الإسلامية. وإذا كان مفهوم الأمة الفضفاض واضحا في معناه بكونه البلاد التي يشكل المسلمون غالبية فيها، فإن مفهوم "ولي الأمر" معقّد فقهيا وله خلفيات عقائدية وتاريخية تجعل كل جماعة/مذهب تعرّفه بالشكل الذي يتوافق مع أدبياتها التي تم بناؤها على مدى قرون.
نلاحظ أن النقاشات السياسية عند المسلمين تتمحور حول مسألة الخلافة والأحقية بها. ورغم انقضاء حقبة الخلافة بمفهومها الأممي، فإنها تظل حاضرة في تصور الإسلاميين بشكل أساسي. الأمر هنا يتجاوز "سقيفة بني ساعدة" كحدث تاريخي أدى لشرعنة "شورى أهل الحل والعقد" مقابل "التعيين الإلهي". فطرح شرعية خلافة أبي بكر مقابل إمامة علي لا تعدو أكثر من كونها نقطة انطلاق تاريخي لبناء معرفي تمت تنميته على هيئة كتب ودروس عقدية وفقهية يتم الاستناد لها في الحِجاجِ.
لا يوجد اليوم من يقاتل لمجرد إثبات شرعية خلافة أبي بكر أو إمامة علي، وإنما تتم تعبئة العامة من أجل ما يُراد له أن يترتب على الخلافة والإمامة. فالخليفة الذي اكتسب شرعيته عن طريق شورى أهل الحل والعقد كما في الخلافة الراشدة، أو بسلطة السيف كما في الخلافة الأموية/العباسية/العثمانية تقوم على مسألة سلطة حاكم قوي "أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ"- بغض النظر عن مستوى تدينه- يكون له "الأمر" في حكم الأمة ويدخل الجميع في طاعته بمن فيهم المختصون في الشريعة.
وفي المقابل عند الشيعة، فإن الإمام الذي لم يُمكّن من حقه يظل هو الحاكم الشرعي الذي له الكلمة الفصل في أمور الأمة، وإن لم يتمكن من الحكم. لذلك فإن الحكم وإن ذهب لغير الإمام، فإنه للإمام المعصوم، أو لنائبه الذي هو الفقيه الجامع للشرائط (الاجتهاد الفقهي، العدالة، الرجولة... إلخ).
وبحسب التاريخ الإسلامي، فإن غالبية الدول حكمت من قبل حكام سُنّة. وعليه، فإن السردية السنّية قد تمّ ترسيخها من خلال تجارب عملية على الأرض جعلت من الخلافة أمرا ملموسا عايشه عامة الناس. وحتى في الفترات التي تجزّأت فيها الخلافة، كان الخلاف حول شرعية الخليفة الزمني بناء على تغلبه، بحيث أصبح لكل رقعة جغرافية خليفتها الذي يعترف به أهل الحل والعقد في تلك الرقعة.
أشعل إعلان أتاتورك إلغاء السلطنة عام 1922، وإبقاء الخلافة مجردة من كل أسباب القوة جذوة نقاش فقهي- سياسي على مستوى العالم الإسلامي
وفي المقابل، توقفت السردية الشيعية عند مفهوم "الحق المغصوب" خلال فترة الخلافة الراشدة، والأموية، والعباسية. في كل تلك الفترات كانت النظرة لمن تولوا الخلافة بأنهم قد "غصبوا" حق الإمام المعصوم. وحتى عندما تولى الإمام علي الخلافة (35-40هـ)، فإن السردية الشيعية ترى أنه إنّما مُكّن من حقه الذي نصّ عليه الرسول (ص) في حياته. وبالتالي، فإن جميع الأئمة الاثني عشر هم ولاة الأمر الذين لم يمكّنوا من ممارسة حقهم مما أدى إلى اختفاء الإمام الثاني عشر إلى حين نهاية الزمان ليعود "ويملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا" كما تشير المرويات السنية والشيعية حول المهدي المنتظر الذي في شخصيته تفصيل وخلاف اعتقادي وتاريخي بين السنة والشيعة ليس هنا مورد نقاشه.
إذن، نحن أمام سرديتين مختلفتين للتاريخ أسست كلُّ منهما لما جاء بعدها بحيث تم تطبيق المُتصوّر التاريخي لمنصبي الخليفة والإمام بناء على السياق التاريخي المرفودِ بالاعتقاد الإيماني واللذين مهّدا لتصور المسلمين لما يعرف بــ"الأحكام السلطانية"، أو ما عرف لاحقا بـ"فقه الدولة".
نوستالجيا الخلافة
من المتسالم عليه، تجذّر فكرة الخلافة في السردية الإسلامية السنية، فالخليفة يجمع كلمة الأمة ويوحدها بناء على لقبه الذي يستحضر "خلافة" الرسول الذي تم اختياره من قبل الله. ولأن مسألة الاستخلاف شأن دنيوي- عن طريق الشورى أو الغلبة- فإنها من ناحية نظرية قابلة للتطبيق.
على الصعيد العملي، فإن التاريخ الإسلامي محكوم في أغلب مراحله بخلافة سنية حتى مئة عام سابقة حين ألغيت الخلافة العثمانية عام 1924. إذن، فأركان شرعية الخلافة مكتملة من حيث السردية التاريخية والتطبيق العملي.
أشعل إعلان أتاتورك إلغاء السلطنة عام 1922، وإبقاء الخلافة في رسمها مجردة من كل أسباب القوة جذوة نقاش فقهي-سياسي على مستوى العالم الإسلامي، للتفكير في أحوال الأمة المتزامن مع اشتداد وطأة الاستعمار الأوروبي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، وانشغلت الأوساط العلمية الإسلامية، على اتساع مساحة العالم الإسلامي الممتدة من شبه القارة الهندية حتى سواحل الأطلسي، بنقاش حول أهمية إبقاء الخلافة كرمز جامع للمسلمين يتكفل بتوحيد سعيهم لنيل الاستقلال والحصول على أسباب النهوض والتقدم. وقد بلغ هذا النقاش ذروة زخمه خلال الفترة بين عامي 1922-1924. وبعد أربعة أعوام من انحسار زخم النقاش العلمي حول الخلافة، أسس حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين كجماعة دعوية تروج إلى اتخاذ الإسلام نهجا لإدارة المجتمع ولحكم الدولة.
منذ تأسيس جماعة الإخوان المسلمين، تماشت الجماعة مع نظام الملكية الدستورية الذي يضمن التعددية السياسية تحت مظلة الملك، وأنشأت مقرات لها في دول أخرى يديرها مواطنو تلك الدول. ورغم كثرة التجاذبات السياسية، فإن الجماعة ظلت بعافيتها حتى بعد اغتيال مؤسسها عام 1949 وانتخاب حسن الهضيبي خلفا له. وفي الوقت الذي لم "تُبايع" الجماعة الملك فؤاد أو الملك فاروق بيعة شرعية، فإنها لم تُعلن الخروج على النظام الملكي أو منازعته، وقد استمرت العلاقة الإيجابية مع حكومة الضباط الأحرار حتى جاء وقت التصادم في حادثة المنشية التي اتهم فيها عبدالناصر الإخوان بمحاولة اغتياله؛ ليتم بعدها اعتقال مجموعة من قادة الجماعة وإعدامهم. بعدها بدأ شتات الجماعة بين المهجر الإسلامي (دول الخليج العربية) والغربي (أوروبا وأميركا الشمالية) ليتحول عناصر الإخوان إلى دعاة لما كانوا يصفونه بـ"المشروع الإسلامي" الذي يترحم على الخلافة الإسلامية ويهاجم الفكر العلماني دون دعوة صريحة للانقلاب على الدول التي تستضيفهم.
رسخ "الإخوان المسلمون" فكرة أن سقوط الخلافة مخطط غربي للسيطرة على العالم الإسلامي
ظلت فكرة الخلافة الجامعة غصة يترحم عليها عناصر الإخوان الذين انخرطوا في سلك التعليم والوعظ دون أن يقوموا بالدعوة لها بشكل مستفز. فهم في صراعهم مع الأنظمة العسكرية في بلدانهم (مصر، سوريا، العراق) كانوا يعون عدم ارتياح الأنظمة الملكية في الخليج للخطاب الثوري الذي تتبناه الحكومات العسكرية التي تصف دول الخليج بالرجعية. لذلك، فقد استغل عناصر الإخوان تلك النقطة ليقوموا بنشر أفكارهم تحت عنوان "محاربة العلمانية" والتي تناقش أصل فكرة انتشار العلمانية في العالم الإسلامية عن طريق "الغرب الكافر" ومن سايره من أبناء العالم الإسلامي.
في هذا السياق، انصب الهجوم على أتاتورك الذي سمح للثقافة الغربية بأن تهيمن على تركيا ليمتد ذلك إلى الدول العربية التي كانت تخضع للنفوذ العثماني. ورغم السردية البكائية على "الخلافة الإسلامية" التي يصرّ الإخوان على جعلها السبب الرئيس لمصائب الأمة، فإن الدول الخليجية لم تجد في ذلك مشكلة كبيرة كون لمز أتاتورك يعني لمز العسكر الذين يقمعون شعوبهم في الوقت الذي يتهمون فيه الأنظمة السياسية المحافظة بأنها رجعية.
تمتعت بكائية الإخوان على الخلافة بالانتقائية الواضحة، فهم يندبون سقوط الخلافة كمفهوم من خلال ندبهم سقوط الدولة العثمانية التي لا يتفقون مع بنيتها الأساسية. فالإخوان لديهم مشكلة مع الحكم الملكي، كون سيد قطب انتقد الدولة الأموية التي تحولت من الشورى إلى التوريث. كذلك، فإن قوانين الدولة العثمانية كانت تبيح أمورا مثل الدعارة المقننة، والتي لا تتناسب مع الصورة المثالية التي يرسمها الإخوان للخلافة.
إن حالة الحنين للخلافة التي روجت لها جماعة الإخوان المسلمين إنما تعبر عن حلمٍ لتطبيق برنامج الجماعة في إنشاء دولة ذات حكم أوليغارشي تحكم أكبر رقعة من العالم الإسلامي مع نشر فكرة الولاء العابر للحدود من خلال الانضواء تحت راية الخليفة وإعلان النفير العام.
ثمة من يحاجج بأن الجماعة- ممثلة في المرشد والقيادات- لم تدعُ صراحة لذلك! ولكن المسألة ليست في الدعوة التي لم تُطلق من قِبلِ مؤسسات رسمية أو قيادات تيارية، فالدعوة الأخطر تكون من خلال الأيديولوجيا التي يتم نشرها بين الناس، وإن تمكن من اقتناصها واستثمارها أشخاص آخرون. تماما كما فعل تنظيم "داعش" الذي قام على فكرة "الدولة الإسلامية باقية وتتمدد".
إشكالية مفهوم الخلافة
رسخ الإخوان المسلمون فكرة أن سقوط الخلافة مخطط غربي للسيطرة على العالم الإسلامي. وقد كُتبت الكتب والمقالات وطرحت المحاضرات للانتصار لأصالة فكرة الخلافة التي ترتبط عضويا بشعار "الإسلام هو الحل" والذي ترفعه الجماعة في وجه المخالفين الذين تتهمهم بالانصياع للغرب.
إن استدعاء التاريخ القديم وربطه بمجريات التاريخ المعاصر للخروج بسردية متماسكة تقوم على الانتقائية يعطي لمفهوم الخلافة بريقا يحتاج لخطاب ثقافي متماسك ليقوضه. فالخلافة كمفهوم فقهي لنَظْمِ أمور المسلمين يتم تكثيفه من خلال التاريخ ليصبح حاكما على عقيدة المسلم. فمن ذا الذي يرفض شعارات رنانة مثل: "الإسلام هو الحل"؟
إن وضع شعار "الدولة الإسلامية" بدلا من "الدولة المسلمة" يجعل فكرة الخلافة قائمة في المتصور الثقافي بشكل ملحٍّ. وفي السياق الإسلامي السنّي، لا توجد دولة إسلامية دون ولي أمر أو خليفة. لذلك نجد المملكة العربية السعودية تلقب الملك بـ"خادم الحرمين الشريفين"، فيما نجد المملكة المغربية تلقّب الملك بـ"أمير المؤمنين". غير أن النموذجين السعودي والمغربي يقرّان- كبقية الدول المسلمة- بمفهوم الدولة الوطنية الحديث والذي يقوم على الحدود الجغرافية المتسالم عليها دوليا دون اعتبار الدول المسلمة المجاورة دولا مارقة يجب أن تدخل في حكمها. في هذا الصدد، فإن اللقب السعودي أقرب لحدود الدولة الوطنية كونه لم يطلق الولاية على عنوان عام (أي المسلمين أو المؤمنين).
وبالعودة لأدبيات الإخوان، فإنهم ضد الحكم الوراثي، وإن تباكوا على خلافة كان الغالب الأعم لرموزها ملوكا توارثوا المنصب داخل إطار أسرهم. يضاف إلى ذلك فكرة الأممية العابرة للحدود والتي تتناقض مع مفهوم الدولة الوطنية الحديثة والتي ينظر لها دعاة الخلافة على أنها من صنيعة الاستعمار الغربي الذي "مزق" الأمة وشتت شملها.
نقطة أخرى غاية في الأهمية تتمثل في تسويق فترة الخلافة بصورة مثالية وكأنها تطبق جوهر الإسلام، بينما الواقع لا يقر بذلك. ففي فترات الدول الأموية، والعباسية، والعثمانية، كانت التجاوزات الفقهية مشرعنة من قبل السلطة بشكل لا لبس فيه، بل إن الكرخانات (بيوت الدعارة) كانت مرخصة قانونا أيام الدولة العثمانية. فهل غفّل مسوقو الخلافة عن ذلك؟
ببساطة، فإن النوستالجيا ليست مجرد حنين للماضي كما كان بالفعل! بل إن التشوق واللوعة على الماضي يكون من خلال إعادة تشكيله من خلال الحذف والحجب بهدف بناء صورة مثالية طوباوية للماضي المراد استحضاره والدعوة لنموذجه. فدعاة الخلافة يدعون لنموذج مثالي يعون- هم قبل غيرهم- أنه يختلف عن التاريخ الذي يبكون عليه.
فكرة استعادة الخلافة في المخيال الإسلامي السني ليست حصرا على جماعات الإسلام السياسي
إن إسلامية الدولة التي يدعو لها الأصولي تستدعي بالضرورة وجود خليفة على رأسها. وبما أن الفكر الإخواني لا يتناغم مع الحكم الوراثي، ولا مع الانتخابات العامة، فإنه بالضرورة لا يقبل بالملكية ولا الجمهورية. وعليه، فإنه يتطلع لحكم أوليغارشي يقوم على شورى ضمن جماعة ضيقة يكون أهم مؤهل لأهل الحل والعقد فيها الانتماء للجماعة والإيمان المطلق بأفكارها. نموذج شبيه بـ"طالبان"، و"القاعدة"، و"داعش".
ربما تميزت "طالبان" بأنها حصرت نفسها داخل حدود أفغانستان، لذلك جاءت التسمية دقيقة "إمارة أفغانستان الإسلامية" براية بيضاء. أما "داعش" فهي مصرة منذ يومها الأول على شعار أن الدولة الإسلامية "باقية وتتمدد" لتدعو الجماعات المتطرفة حول العالم لمبايعة التنظيم الأم من أجل تحقيق شرط الدخول في دولة الخلافة ومواجهة قوى الغرب التي تريد التحكم في بلاد المسلمين برايتها السوداء.
إن فكرة استعادة الخلافة في المخيال الإسلامي السني ليست حصرا على جماعات الإسلام السياسي، بل ثمة أكاديميون ومثقفون يدعون لها بوصفها بديلا عن الأنظمة السياسية القائمة، وحلا لمواجهة القوى الغربية التي تقوم على مبادئ كولونيالية (استعمارية) استبدلت فيها الفكر بالجيوش لتسيطر على العالم، ومن ضمنه العالم الإسلامي.
في كتابه "استعادة الخلافة: تفكيك الاستعمار والنظام العالمي" الصادر عام 2018، يقدم الدكتور سلمان سيد، أستاذ النظرية الاجتماعية والفكر ما بعد الكولونيالي في جامعة ليدز في بريطانيا، رؤية نقدية للنظام الدولي الراهن القائم على المركزية الغربية بقيادة الولايات المتحدة، من خلال إعادة طرح مفهوم الخلافة بوصفه المعبر عن الكينونة المسلمة في جميع أرجاء العالم.
يذهب سلمان سيد لكون الدولة الوطنية التي يدعمها الغرب وبدأت في بلاد المسلمين على يد أتاتورك في تركيا، قد وضعت المسلمين في قطيعة ذات ثلاثة مستويات:
1- قطيعة مع الماضي التراثي للأمة والذي يسعى لوحدة بلاد المسلمين تحت خلافة جامعة.
2- قطيعة بين أجزاء الأمة التي تحولت إلى دول ذات مصالح وسياسات مختلفة.
3- قطيعة مجتمعية بين المسلمين الذين تحولوا إلى مجاميع مختلفة تشكل مناخا للصراعات القومية والطائفية مما يفضي إلى تفتيت نسيج المجتمع الإسلامي.
ورغم "دنيوية" طرح سلمان سيد، وعدم تطابق تفاصيله مع الطرح الإخواني، فإنه يجب تذكر أمر مهم جدا يتلخص في تلازم مفهوم الخلافة مع التطبيق الحازم للشريعة. فلا خلافة إسلامية دون دعوة لتطبيق الشريعة، ولا تطبيق للشريعة دون احتكار مدرسة معينة داخل مذهب معين يقوم عليه فقهاء لمدرسة داخل ذلك المذهب. بمعنى أنها لن تكون دولة إسلامية ولا حتى سنية، بل ستنحصر وفق مفهوم ضيق من أجل وأد أي فتنة تقوم على الاختلاف الفقهي.
الخلافة خلاف الواقعية
في كتابه "استعادة الخلافة: تفكيك الاستعمار والنظام العالمي"، يطرح سلمان سيد أزمة الهوية الإسلامية التي تحولت- بحسب وصفه- إلى شتات بغض النظر عن كون المسلمين أكثرية حاكمة أو أقلية بعيدة عن السياسة. ويعزو سلمان سيد ذلك إلى ما وصفه بارتباط الخلافة بالوجدان الإسلامي (السنّي) بوصفها طوق النجاة من حالة الضياع والتهميش.
لا نستطيع فك الارتباط بين تخصص سيد في الفكر ما بعد الكولونيالي ومناقشته لمفهوم الهوية الإسلامية، يضاف لذلك كونه هو نفسه مسلما مغتربا في بريطانيا. إن المشكل المعرفي عند المفكر والأكاديمي دائما ما يكون مرتبطا بشكل فلسفي بجذور الأزمة التي- بحسب ما يرون- يجب حلحلتها للوصول إلى حل المشكلة القائمة.
رغم طرح سيد مجموعة من الاقتراحات التي تُعيد الخلافة وتوفق بينها وبين العالم الحديث، فإن الواقع السياسي والاقتصادي لا يقبل ذلك لعدة أسباب، أهمها "السيادة الوطنية" التي لا وجود لها في فقه الدولة. يعيدنا طرح سيد لمسألة الحاكمية التي ارتبطت بنيويا بالمفهوم المعاصر للخلافة منذ كتابات أبو الأعلى المودودي، مرورا بحسن البنا وسيد قطب، وليس انتهاء بـ"داعش" اليوم.
لسنا بصدد اتهام الأسماء المذكورة بتأسيس الفكر المتطرف، فالتراث مليء بما يغري الباحث عن التطرف كما الباحث عن الاعتدال برفد مفاهيمه بالأدلة التاريخية التي دونتها أمهات الكتب. لكن الإشكال هنا في عزل التراث الفقهي الذي نشأ في ظل إمبراطوريات لديها مصالحها السياسية ضمن أعراف سياسية تحكم ذلك الزمن. فلا يمكن أن تطلب من الدولة الأموية أو العباسية أن تخلق لنفسها أعرافا سياسية لا تتناسب ومواجهة الإمبراطورية البيزنطية. والأمر نفسه بالنسبة للدولة العثمانية المجاورة لأوروبا. بل إن تمسك العثمانيين بالنموذج التقليدي للإمبراطورية جعلها تعيش سياقا مختلفا عن مثيلاتها الأوروبية.
غياب السردية الواقعية عن الطرح الفكري اليوم يفتح باب النوستالجيا القائمة على القراءة المبتورة للتاريخ
إن طرح فكرة الخلافة اليوم يستدعي بالضرورة عدم الاعتراف بالحدود الوطنية، مما يستدعي بالضرورة "جهاد الطلب" الذي يضع المسلمين في حالة صراع دائم مع الآخر الذي يمتلك كل وسائل التقدم العسكرية والاقتصادية والتقنية. وبالتالي، فإن مفهوم الخلافة عند طارحيه يظل مفهوما رومانسيا مجردا عن الواقع ولا يمتلك المدافعون عنه قدرة الطرح الإجرائي لحيثيات دولة الخلافة.
قد يجد البعض فيما أطرحه ترفا فكريا، كون مسائل الخلافة غير متحققة ولا ينادي بها إلا المتطرفون، ولكن هل هذا الاستخفاف في محله؟
لننظر عدد الشباب الذين لبوا دعوة النفير العام لـ"داعش"، وكيف تركوا بلدانهم وحياتهم من أجل الانضواء تحت لواء الخلافة. كثير من أولئك الشباب متعلمون ويعيشون في دول متقدمة، بل إن كثيرا منهم كانوا يعيشون في أوروبا وأميركا الشمالية، إضافة لدول الخليج التي تنعم بالرفاه الاقتصادي.
إن الطرح العقدي الذي يصر على ثنائية الولاء والبراء بما تحتويه من دعوة صريحة لبغض غير المسلم، أساس لأي عقيدة تطرف. يأتي بعدها دور الفقه الذي يجرّد الآخر من إنسانيته بوصفه حلال الدم والمال والعرض. ولإضفاء الشرعية على المعتقد والتشريع الفقهي تأتي السردية التاريخية للفتوحات الإسلامية لتثبت الطرح النظري في كتب العقيدة والفقه.
لسنا هنا بصدد جلد ذواتنا واتهام تراثنا بالتطرف، وإنما المقصود تفكيك خطاب التطرف بأبعاده الثلاثة (العقدي، والفقهي، والتاريخي). فلكل أمة سرديتها الخاصة التي تشرعن التطرف من خلال أدبياتها التي يدعمها التراث بمختلف روافده. فالخطاب الكولونيالي أعطى وما زال يعطي للغرب مبررات لمحاسبة المختلفين معه بحسب مبادئه الآنية التي هي عرضة للمراجعة والانقلاب. وحتى في حال الانقلاب، فإن الغرب يطلب من بقية العالم السير في ركابه. فجرائم الاستعمار الغربي للمناطق الضعيفة كانت دائما مدعومة بالإرساليات التبشيرية التي تفرض دينها على السكان المحليين الذين يتركون أديانهم الأصلية في سبيل الخلاص من "بعض" الممارسات الوحشية لجيوش الاحتلال.
ما يهمنا في هذا السياق مراجعة فكرة الخلافة الجامعة وتفكيك عناصرها القائمة على نوستالجيا غير واقعية تجذب الكثير من الشباب الذين يلوذون بأوهام الماضي هروبا من قسوة الحاضر. ولا تقتصر قسوة هذا الحاضر على المشاكل الاقتصادية والسياسية فحسب، بل يمتد ذلك إلى أزمة الإيغال في المادية وما بعد المادية التي نعيشها اليوم بغزو التكنولوجيا والذكاء الصناعي لتفاصيل حياتنا اليومية.
غياب السردية الواقعية عن الطرح الفكري اليوم يفتح باب النوستالجيا القائمة على القراءة المبتورة للتاريخ. وعليه فإن الفكر العابر للحدود سيجد طريقه للشباب الذين يتلقون خطابات مغرية تدغدغ مشاعرهم وتعدهم بتذاكر مرور لنعيم الآخرة في سبيل التضحية المطلقة بالحياة الدنيوية.