لم يكن مقنعا لجوء إيران إلى القانون الدولي والمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة الذي أبلغت على أساسه مجلس الأمن بأنها استخدمت حق الدفاع عن النفس بعد تعرض قنصليتها في دمشق للقصف الإسرائيلي في الأول من أبريل/ نيسان.
بعض الأوساط الدبلوماسية رأت أنه لو قبلت واشنطن بصدور بيان صحافي عن مجلس الأمن بإدانة قصف إسرائيل للقنصلية الإيرانية لكان ذلك وفر الرد الإيراني بقصف إسرائيل ليل 13 أبريل/نيسان. الحجة المقابلة هي أن طهران كانت ستأخذ أي إدانة من مجلس الأمن للقصف الإسرائيلي على قنصليتها في العاصمة السورية التي تعتبرها أرضا إيرانية وفق القانون الدولي غطاء من أجل تنفيذ ردها الصاروخي المدروس على الدولة العبرية.
واقع الأمر أن كل ما جرى يتم بخرق القانون الدولي الذي يصرخ الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش داعيا إلى العودة إليه بعد المجازر الإسرائيلية في غزة. ما هو ساري المفعول في الصراع الدائر في الشرق الأوسط هو قانون الغلبة للأقوى. وهذا أمر مارسته الدول المعنية كافة، سواء في المواجهات العسكرية التي تحكمت في المنطقة أو في التسويات والصفقات بين دولها التي يمليها ميزان القوى.
وإذا كانت المنطقة تتجه إلى "شرق أوسط" جديد، فإن الأمر لن يتم حكما بالتراضي ووفق "القانون الدولي" الذي اختار اللاعبون الكبار اللجوء إليه بعد الحرب العالمية الثانية، وما لبث أن سقط بالتدريج حين اهتز تقاسم النفوذ. بل أن إرساء معادلة جديدة يحصل بالحديد والنار.
إلا أن "الناظم" القوي للحروب والمواجهات العسكرية (أميركا)، لا يمكنه أن يتركها على غاربها، لأن توسعها يهدد مصالحه ويفرض عليه الانخراط المباشر فيها بدلا من الاعتماد على الوكلاء والحلفاء في إدارة تلك الحروب.
أجبرت عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها حركة "حماس" في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي واشنطن على النزول إلى ساحة المواجهات العسكرية في الدفاع عن إسرائيل، عبر تعزيز حضورها العسكري في المنطقة، من دون أن تقحم نفسها مباشرة في الحرب. لكن تدحرجها بعد الرد الإيراني على قصف إسرائيل القنصلية الإيرانية نقل تدخلها إلى موقع المشاركة ولو المحدودة في مجرياتها. ولولا هذا التدخل سواء بإسقاط أكثرية الصواريخ والمسيرات التي أطلقتها طهران، أو بتفاهمها غير المباشر معها عبر الوسائط الدبلوماسية، على انتقام غير مؤذٍ لإسرائيل، لكانت الحرب توسعت خلافا لإرادتها. فالتوقيت في زمن الانتخابات الرئاسية التي يخوضها جو بايدن كان سيجلب الضرر عليه ويغرق العالم في تأزم جديد يفيض عما سببته الحرب في أوكرانيا للاقتصاد العالمي...
بعد لعبه دور "الناظم" للرد الإيراني، وجد بايدن نفسه مضطرا للعب الدور نفسه مع بنيامين نتنياهو ومجلس الحرب الإسرائيلي الذي هاله مجرد إطلاق طهران 300 مسيرة وصاروخ لم تسبب أضرارا تذكر على مساحة الدولة العبرية.
"الناظم" القوي للحروب والمواجهات العسكرية (أميركا)، لا يمكنه أن يتركها على غاربها، لأن توسعها يهدد مصالحه ويفرض عليه الانخراط المباشر فيها بدلا من الاعتماد على الوكلاء والحلفاء في إدارة تلك الحروب
إن عقيدة القيادة الحالية في إسرائيل، تقوم على ربط أصل وجودها بتفوقها الردعي ضد خصومها، الذي تعرض للاهتزاز. وهي عقيدة لا تكتفي بالاطمئنان إلى القدرة العسكرية بل إلى إخضاع الخصم للاستسلام إلى درجة تجعل مجرد التفكير في مواجهة إسرائيل مستحيلا. وهو أمر لم يعد ممكنا أمام الأجيال الفلسطينية المتتالية الرافضة لتصفية قضيتها.
إزاء اعتبار واشنطن أنها حققت إنجازا بتحجيم طهران لردها على إسرائيل، جراء تحذيراتها لها ومخاوف القيادة الإيرانية من الأضرار عليها إذا توسعت الحرب، لم تقبل إسرائيل بالحجة الأميركية القائلة إنها ربحت في هذا الفصل من المواجهة. وقام بايدن بدعوة نتنياهو إلى التمسك بهذا الربح بدلا من الإصرار على الرد بعد الرد. وإيران لم تؤذِ إسرائيل بضربتها، فلماذا ترد عليها؟
التهديد الإيراني بردود أقوى وأوسع هذه المرة ينذر بإقحام أميركا أكثر مما حصل في 13 أبريل، يدفع بايدن إلى تبريد المواجهة، في الإقليم، كما أن مصلحته الانتخابية تحققت مع الجمهور الانتخابي المؤيد لإسرائيل فخرج أقوى في التنافس مع الجمهوريين الأكثر تأييدا لها. وهو يطمح بعدها إلى إنجاز دبلوماسي يوقف الحرب في غزة، ويفرج عن الرهائن وبينهم ستة أميركيين، وإطلاق مشروعه للحل السلمي مع الفلسطينيين، بخطوات متدرجة لقيام دولة فلسطينية، بهدف استرجاع ثقة الجناح الليبرالي واليساري من الديمقراطيين. لكنه بحاجة إلى تطويع القيادة الإسرائيلية لنقل المواجهة إلى المستوى الدبلوماسي في وقت تتصرف الأخيرة فيه باعتبار أن ما حصل أطلق يدها مجددا في غزة وفي الضفة الغربية.
القاعدة تقول: حين يدخل الأصيل المواجهة العسكرية ولو المحدودة، كما فعلت أميركا في 13 أبريل، يضعف وزن ودور الوكيل، إسرائيل، لأن طاقتها لم تكن كافية في المجابهة، فتصبح المبادرة بالكامل في يد الأصيل. ولهذا انعكاساته في التسويات السياسية والدبلوماسية.
الأمر نفسه يفترض أن ينطبق أيضا، على إيران ووكلائها الذين كانت قبل 13 أبريل تخوض الحروب والمواجهات عن طريقهم، فإذا بها تدخل الميدان بشكل مباشر من دون دور يذكر لهؤلاء.
التهديد الإيراني بردود أقوى وأوسع هذه المرة ينذر بإقحام أميركا أكثر مما حصل في 13 ابريل، يدفع بايدن إلى تبريد المواجهة
استخدام طهران لهذه الكمية من الأسلحة بقي محكوما بترتيبات وتفاهمات سياسية مسبقة، دفع قادتها إلى إعلان أن انتقامها "انتهى"، فإنه يفترض البحث في مخارج للحد من أدوارهم العسكرية كل وفق ظروف الساحة التي تحتضنه. وهو ما يحتاج إلى مسار طويل، يشمل "حزب الله" في لبنان وسوريا، و"الحشد الشعبي" في العراق والحوثيين في اليمن...