اضطرت غوراني في البداية إلى إخفاء أصلها حتى تتمكن من متابعة عملها الصحافي في فرنسا. وتصف أنها عندما بحثت عن عمل هناك في وقت مبكر من حياتها المهنية، لم تكن تذكر إتقانها العربية كمهارة لغوية ضمن سيرتها الذاتية وكيف كانت تحرص على إرفاق صورة شخصية لها – التي لا تبدو فيها أنها عربية – كي تخفي أصلها وتتجنب بالتالي أن تقع ضحية للتمييز. كما أنها غيرت كنيتها من إبراهيم باشا إلى غوراني – وهي كنية والدتها قبل الزواج - لأن لفظ كلمة Gorani لها جرس أوروبي أكثر. ونجح هذا التكتيك وانطلقت مسيرتها الصحافية.
من الملاحظ أن غوراني لا تقدم الغرب في كتابها كمكان واحد، بل تسلط الضوء على الفرق مثلا بين الولايات المتحدة وفرنسا بوصفه فرقا بين عالمين. ولكن على الرغم من ذلك، فإن شعورها بأنها مضطرة إلى إخفاء عروبتها يوضح ما يواجه العرب من تحديات في الغرب عموما.
التصالح مع الذات
استغرقت غوراني سنوات حتى توصلت في النهاية إلى شعور بالقبول والتصالح مع أصلها وإرثها، تتذكر في كتابها بسعادة فترة تقديمها برنامج "من داخل الشرق الأوسط" على قناة "سي إن إن"، فسافرت إلى جميع الدول العربية لتعد تقاريرها عن غنى هذه الدول الاجتماعي والثقافي. وتعتقد أنها شعرت بأن عليها أن تستخدم الصورة النمطية التي يبدو عليها العربي حتى تتمكن من تحدي التحيز الغربي وأحكامه المسبقة. غير أنها تقول أيضا إن الغربيين ليسوا وحدهم، بل إن العرب أنفسهم أيضا، أخبروها في بعض الأحيان أنها لا تبدو عربية.
من يعرف سوريا جيدا يعرف أن نسبة ليست قليلة من شعبها هم من ذوي البشرة الفاتحة والشعر الأشقر والعيون الزرق مثل الغوراني. ولعل الغربيين يقيمون الغوراني استنادا إلى الصورة النمطية التي يحملونها عن العرب بوصفهم داكني البشرة ومحافظين. لكن ما يوحد الغربيين والعرب في هذا التعليق، هو الشعور المضلل بأن غوراني تشكل انحرافا عن القاعدة المتصورة. وهنا تتجاوز المسألة المظهر الجسدي البسيط. لأن القاعدة النمطية في هذه الحالة أن صوت المرأة العربية غائب عن مجال الإعلام الدولي. "أنت لا تشبهين العرب"، تعني أيضا "أنت شخصية بارزة في مجال الإعلام الدولي، لذا لا يمكن أن تكوني عربية لأن العرب، وعلى الأخص نساءهم، غير مرحب بهم هناك". وهذا التصور ليس دقيقا.
ينبغي عدم الاستهانة بإنجازات غوراني. فهي واحدة من أبرز النساء من أصل عربي بظهروها كمذيعة في قناة إخبارية دولية في الولايات المتحدة ولا تزال تعمل في شبكة إخبارية كبرى (إن بي سي) حتى اليوم. وقد تألقت في مسيرتها المهنية بفضل تغطيتها الشجاعة للانتفاضة المصرية عام 2011 ومن ثم تغطيتها للصراع السوري، وهو ما أهلها للفوز بجائزة "إيمي" عام 2012.
لكن غوراني تدرك أنها ليست وحيدة في هذا المجال. ولحسن الحظ، كان تميز المرأة في وسائل الإعلام العربية سمة من سمات هذا المشهد طوال عقود من الزمن، بينما يوجد اليوم العديد من النساء العربيات البارزات في وسائل الإعلام الغربية الدولية اللاتي يشغلن مناصب مديرات ومحررات ومراسلات. ويساعد تقدير إنجازاتهن والاحتفاء به في التغلب على الصورة النمطية الخاطئة أن العرب لا مكان لهم في البيئة الإعلامية الدولية.
شجاعة شخصية
ما يكشفه الكتاب عن المستوى الذي بلغه تفكيرها الشخصي هو أحد جوانبه الفريدة: فليس من الشائع أن تكتب امرأة عربية تعمل في وسائل الإعلام الدولية مذكرات منفتحة كهذه. وهي لا تزعم في هذه المذكرات أن رحلتها الفردية تمثل تجارب العرب في الشتات، لا في مجال الإعلام الدولي ولا في غيره. فهي تركز بشجاعة على قصصها الشخصية - قصص التحدي والنجاح، وأيضا قصص ضعفها وهشاشتها في مواقف معينة واتخاذها قرارات مشؤومة، كاشفة بذلك نموها الشخصي أثناء التعلم ومضيها قدما. هذا تواضع مفعم بالقوة. كما لا تدعي أنها بطلة عربية. إنما أرادت أن يلهم كتابها الجيل الجديد من الصحافيين، وعلى الأخص النساء العربيات، عندما تشاركهم رحلتها الشخصية بصدق.
ما يتسم به الكتاب من انفتاح أمر هائل، لأن البيئة السائدة للأسف تظل بيئة ينبغي للمرأة العربية أن تخطو فيها بحذر في ما تكشفه علنا خشية أن يُؤخذ ضدها. الأمر ليس متعلقا بالعروبة فحسب، بل بالجنس أيضا، حيث تظل كلمات المرأة وسلوكها ومظهرها خاضعة لتدقيق أكبر بكثير مما يخضع له الرجل.