فيما تزداد التوترات بين إيران وإسرائيل حدة يوما بعد يوم، ثمة سؤال رئيس يتعين على صناع السياسات في الغرب أن يأخذوه في الحسبان، وهم يقيّمون خياراتهم، وهو: هل تريد إيران حقا أن تنخرط في مواجهة عسكرية مباشرة مع الدولة اليهودية؟
لقد غدا هذا السؤال أكثر إلحاحا بعد أن شنت طهران وابلا من الهجمات بمسيرات وصواريخ ضد إسرائيل ردا على الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق في الأول من أبريل/نيسان.
واعترضت الدفاعات الجوية الإسرائيلية ومعها قوات التحالف بما في ذلك الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا والأردن ما يقرب من 300 مسيرة وصاروخا أطلقتها إيران على إسرائيل ليلة السبت 13 أبريل. ولم تصل هذه الصواريخ إلى أهدافها، وفقا للمصادر الإسرائيلية، باستثناء صاروخ واحد أصاب هدفه، وهو قاعدة جوية إسرائيلية في جنوب إسرائيل وأصابها بأضرار طفيفة، دون أن يخرجها من العمل.
ويمثل هذا تحولا تاريخيا في الاستراتيجية العسكرية الإيرانية، حيث إنه أول هجوم مباشر على إسرائيل منذ الثورة الإسلامية عام 1979. فعلى مدى السنوات الأربعين الماضية، وعلى الرغم من التنافس الشديد بينهما، تجنبت إيران باستمرار الانخراط العسكري المباشر ضد إسرائيل، مفضلة الأساليب غير المباشرة.
لقد دأب النظام الإيراني على تفادي توجيه أي ضربة مباشرة لإسرائيل، طيلة العقود الأربعة، أو نحو ذلك، التي انخرط فيها في تنافس إقليمي خطر مع إسرائيل. وبينما يدين آيات الله علنا ما يسمونه "الكيان الصهيوني"، فقد تجنبوا على الدوام أي صدام مباشر مع الإسرائيليين، وفضلوا بدلا من ذلك الاعتماد على الجماعات الوكيلة، مثل "حزب الله" و"حماس"، لاستهداف إسرائيل نيابة عنهم.
لا ريب في أن العداء العميق الذي تكنه إيران لإسرائيل، ويتجلى في مواظبة زعماء بلد الثورة الإسلامية بانتظام على الدعوة إلى تدمير إسرائيل، بات أوضح منذ شن مسلحو "حماس" الذين تدعمهم إيران هجومهم المسلح على جنوب إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول. وأعادت طهران التنديد المعتاد بإسرائيل وبالقوى الغربية، مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، التي أعلنت دعمها للإسرائيليين عقب هجمات "حماس"، وبدا ذلك في أوضح أشكاله خلال احتفال فبراير/شباط بمناسبة الذكرى الخامسة والأربعين للثورة الإيرانية، حيث اتهم الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي الإسرائيليين، في مراسم الاحتفال التي عقدت وسط طهران، بارتكاب إبادة جماعية بحق الفلسطينيين في غزة، وتنبأ بـ"موت النظام الصهيوني".
وفيما كانت الصواريخ والمعدات العسكرية الإيرانية الصنع تشكل خلفية الحفل، طالب رئيسي بطرد إسرائيل من الأمم المتحدة بسبب تعاملها مع الصراع في غزة. وتخللت حديثه، صيحات الحشود "تسقط الولايات المتحدة"، "تسقط إسرائيل"، "تسقط المملكة المتحدة".
غير أن النظام، على الرغم من هذا وذاك، ومع كرهه الواضح لإسرائيل، واصل تجنب الاصطدام معها على نحو مباشر، وفضل أن يعتمد على "حزب الله" والمتمردين الحوثيين في اليمن لتنفيذ ما يصبو إليه. وحتى مع تنفيذ إسرائيل سلسلة من الضربات ضد أهداف مرتبطة بإيران في لبنان وسوريا منذ السابع من أكتوبر، استمرت إيران في سياسة عدم المواجهة التي تنتهجها.
وفي واحدة من الهجمات التي شنتها إسرائيل في ديسمبر/كانون الأول، وأثارت اهتماما كبيرا، تمكنت إسرائيل من اغتيال رضي موسوي، الضابط في "فيلق القدس" التابع لـ"الحرس الثوري" الإيراني، والمسؤول عن تنسيق التحالف العسكري بين إيران وسوريا. لهذا جاء رد إبراهيم رئيسي على الاغتيال محذرا إسرائيل من أنها "ستواجه عواقب" قتله، بينما حذرت وزارة الدفاع الإيرانية قائلة إن على الإسرائيليين أن يتوقعوا "ردا ذكيا". وحتى في هذه الحالة، لم يأت رد إيران الانتقامي على الفور، وهو ما فسر كعلامة على إحجام إيران عن التورط مع إسرائيل في صراع عسكري مباشر.
أحد العوامل الرئيسة التي تحسب لها طهران حسابا في نهجها تجاه إسرائيل هو ما سيلحقه أي هجوم إيراني على إسرائيل من تأثير على "حزب الله" في جنوب لبنان، في وقت ما انفك فيه الإسرائيليون يطلقون تهديداتهم المتواصلة بتدمير الحزب إذا تجاوز حدوده. والعامل الآخر أن إيران قد تمنح الإسرائيليين، إن شنت هجوما عليهم، ذريعة لاستهداف برنامجها النووي، الذي يشكل مصدرا دائما للتوتر بين الإسرائيليين والإيرانيين.
ولذلك لا بد الآن من إعادة النظر في الاعتقاد السائد بين صناع السياسة الغربيين بأن إيران كانت مترددة في استهداف إسرائيل بشكل مباشر، بعد هجوم إيران المباشر على أهداف إسرائيلية ليلة السبت. وتصر إيران على أن أفعالها كانت مبررة تماما، ردا على القصف الإسرائيلي للقنصلية الإيرانية في دمشق مطلع أبريل/نيسان، وهو الهجوم الذي أدى إلى مقتل الكثير من كبار القادة الإيرانيين.
وعلى غرار ردودها على الأحداث الماضية، تعهدت إيران بالانتقام. ولكن الأمر اختلف هذه المرة، مع انزياح الإيرانيين عن استراتيجيتهم المعتادة المتمثلة في الاعتماد على وكلاء إقليميين لتنفيذ العمليات، واختاروا بدلا من ذلك تنفيذ هجوم مباشر بأنفسهم. وتبرر طهران هذا التحول الكبير في النهج بموجب القانون الدولي، حيث تعتبر القنصلية الإيرانية منطقة تقع تحت السيادة الايرانية. وبالتالي، تؤكد إيران أن لها الحق القانوني في الرد المباشر على الهجمات التي تقع على أراضيها من خلال استهداف الأراضي الإسرائيلية.
وقد حرص المرشد الإيراني علي خامنئي على تأكيد هذه النقطة، في خطابه بمناسبة نهاية شهر رمضان، مجددا تعهد إيران بالانتقام من إسرائيل، فقال: "عندما يهاجمون القنصلية، فكأنهم هاجموا تراب بلادنا. لقد اقترف هذا النظام الشرير خطأ ولا بد أن يعاقب عليه، وسوف يعاقب".
ودفعت هذه التوترات المتفاقمة الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي تربطه علاقة مضطربة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إلى إعادة تأكيد التزام واشنطن بالدفاع عن إسرائيل، ووصف هذا الالتزام بأنه متين "متانة الحديد".
واصل النظام الإيراني تجنب الاصطدام مع إسرائيل على نحو مباشر، وفضل أن يعتمد على "حزب الله" والمتمردين الحوثيين في اليمن لتنفيذ ما يصبو إليه
يمثل التصاعد الأخير في التوترات بين إيران وإسرائيل تصعيدا كبيرا في سياسة حافة الهاوية التي امتدت لعقود بين البلدين، مما يجعلهما أقرب إلى مواجهة مباشرة يمكن أن تؤدي إلى حرب واسعة النطاق في الشرق الأوسط بين البلدين الأفضل تسليحا، اللذين يواجهان الآن قرارات حاسمة فيما يتعلق بخطواتهما التالية.
من جانبها، بينت إيران أن هجومها الأخير كان ردا معزولا، مؤكدة أنها لن تتخذ أي إجراءات أخرى ما لم تستفزها إسرائيل. وعلى العكس من ذلك، أعربت إسرائيل عن نيتها الرد على الهجوم في الوقت الذي تختاره. ويبقى القول إن الكيفية التي ستتطور بها هذه الأزمة في الأيام المقبلة يمكن أن يكون لها عواقب عميقة ودائمة على المنطقة لسنوات عديدة قادمة.