الجدار والهوية والحرية: 3 روايات كتبها أسرى فلسطينيون

وفي سرده يقدم أبو سرور صورة بانورامية تتناول زوايا الغرفة المعتمة المشبعة بالرطوبة والعفن، ويقدم القلق الوجودي للإنسان، ومجهولية المستقبل للأسير الفلسطيني، وقد وقع بين قبضتي سجّان شرس، لا يأبه للصوت الإنساني وحق المرء في العيش دون قيد أو تهديد. يبدو أبو سرور ورفاقه في السجون الإسرائيلية، مثل عربات نُزعت إطاراتها فبقيت جديدة غير مستخدمة، متوقفة، في حياة سريعة تمضي على الإطارات السريعة.

ويستعرض أبو سرور تجربة السجين ومرارة الاحتجاز. بلغة أدبية ممتلئة بالصور والشعور البشري والخيالات التي تغص بالأمنيات، وسرد يظهر الحسرة والحرمان من أبسط الحقوق البشرية في العيش، عبر التجريب ولمس الأشياء وليس مجرد وصفها أو الحديث عنها. إنها جملة من المشاعر العشوائية المختلطة، تتكور في جسد مركون بجانب حائط مدى العمر، فلا يكون له التأقلم، بل يجترح التجربة من خلال الجدار وحده، باستمرار مراقبته ونقل مشاعره، وكأنه مركز الحكاية، وكل ما حوله يصبح هامشا، مكملا، كي تستمر حتمية الشغف والشوق. حيث تنسدل من الجدار ذكريات الطفولة، والحكايات المؤلمة مع الأب المتخلي، والأم القوية الصامدة، كما تنبعث منه رائحة المخيم لتغطي على الروائح كافة في داخله، حتى يظن أن الحياة عبارة عن كتلة من العفن والعقد غير القابلة للتفكيك، فكرا وهوية وممارسة.

أقصر الطرق

الجدار في هذه الرواية هو بمثابة الحبكة التي يطمح إليها أي كاتب سردي، البنيان الذي لا يهتز، ولا يتحرك، لكن الأشياء من حوله تفعل ذلك. فيصبح الحد الفاصل بينه وبين داخله، وبينه وبين الحياة في الخارج، وكذلك القناعات والتجارب. فكان الاتجاه نحوه مصدر قوة للإكمال ونسيان الخارج، والتعايش مع واقع جديد، عجز عن تخطيه. يكتب أبو سرور: "كيف يصبح الالتصاق بالجدار أقصر الطرق لاجتيازه؟".

وبما يحمله المخيم من صوت للنشأة ورمزية للضيق في البيوت والممرات، كان من الركائز التي بنى عليها أبو سرور سرده، حيث أبرز كيف تدور الحياة في المخيم حول ذاتها، لا تتقدم فتُفرج عن ساكنيه، ولا تنعدم، فيتشتت هذا الجمع المحمل بكل أشكال الألم. يكتب: "لكل رواية عناصر ثلاثة هي: المكان والزمان والشخوص وسؤال يربط بينهم، إلا رواية المخيم، لا مكان في سرديتها ولا زمان".

لا يعود الأسير هو ذاته أمام صوت أمه أو ملامستها أصابعه خلال زيارة، من خلف جدار مشبّك، إذ أن قبلات كبيرة من فم أمه، لا تستطيع المرور كاملة الى أطراف أصابعه، بسبب ضيق المربعات.

ولا تستطيع مشاعر زوجة الأسير اختراق تلك المربعات الشبكية، ولا التعبير عن ذروتها، فيقف هذا الجدار اللعين في وجه الحب، كما يقف في وجه الحياة. ولا تتوقف هرمونات جسد الابنة عن النمو وانضاج جسد الطفلة، بسبب غياب الأب في السجن. فمع الزمن، تتغير البنت وتستقل عربة الحياة، بينما يقف الأب الأسير متفرجا، يراقب خجل ابنته في كل مرة، تأتي فيها لزيارته خلال رحلة البلوغ الجسدي، الى درجة أنه يشعر بالقهر لأنه لا يستطيع احتضانها، أو تقبيلها، فلكم يشعر بأنه غريب عنها.

من السرد: "أب يتوسل قبلة أخيرة من ابن اختبأ خلف ثوب أمه ليتساءل عما يريده هذا الرجل ذو الوجه الحديدي المربع. مراهقة ارتدت ما يزيد على حاجتها من ثياب لتخفي تحتها ما نما على جسدها من ثمار محرمة وأب صار يتردّد في تقبيلها مودعا. زوجة قبل أربعينها استغلت فوضى ما يحدث لتسرق طرف قبلة أو أكثر، تطفئ فيها ما يشعله كل ليلة نصف سريرها الفارغ".

هوية

أما الكاتب الفلسطيني الأسير باسم خندقجي فيشتق معاني ملتبسة للهوية النضالية، والبحث عن الذات في وطن محتل، خلال روايته "قناع بلون السماء" الصادرة عن "دار الآداب"، 2023، والمتأهلة للقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، 2024.

فمثلما شكل الجدار حبكة رواية أبو سرور، فإن الهوية تشكل أساس رواية خندقجي. فكل التناقضات المعرفية والاجتماعية داخل سرده تتمحور حول تشكيل هوية الفرد في مجتمع لا يشبهه، بل يرفض وجوده، ويطالب بنفيه على مدار اللحظة.

هكذا جاءت الرواية الممتدة مئتي صفحة، مساحة للتأملات حول الشخصية الفلسطينية صاحبة الأرض والتاريخ، والشخصية الإسرائيلية الكولونيالية، التي تمتلك الحاضر وتحاول أن تختلق ماضيا من بنات الخيال، عبر وضع دلالات عينية على أرض فلسطين.

إن نور الشهدي بطل الرواية، ابن المخيم، وجد في المخيم "كثافة" في كل شيء، صوتا وإطارا وهوية ومعرفة، لكنه وجد داخل المجتمع الصهيوني فراغا كبيرا، فجوة تعمل على فصله عن عالم يحيط به، فهم لا يرون إلا أنفسهم في المرآة، في عنصرية وازدراء للمعايير الثقافية والفكرية الأخرى.

من الرواية: "في القدس.. أنا أتجرع أكاذيب وأساطير ملعوبا بأسفل سافلها، أتجرعها ثم ألفظها بمناعتي وحصانتي وعزمي على مواجهة الاغتصاب التاريخي الذي نتعرض له منذ نكبتنا على الأقل".

بذرة الأرض والثمرة المشوهة

تقوم مركزية السرد حول فكرة الأقنعة التي أنتجت من نور الشهدي عبر المصادفة البحتة، شخصية أورا شابيرا الذي يتحرك بهيئة الشخصية الصهيونية، ولب العقلية العربية، الثمرة المشوهة، والبذرة التي تبحث عن بقائها في الأرض. فهذا الصراع الوجودي لثقافتين، تجسدتا في شخصية تبحث عن الحقيقة، عبر بحث تاريخي، ولطالما بحث الشهدي عن الأرض والحقيقة والتاريخ، بكل أشكال التوتر والخوف والألم والحسرة على واقع الفلسطيني المتعب، لكنه وجد ذلك كله في الحب، لينزع الأقنعة كافة، ويعيش حقيقة الحياة في شبك يده بيد امرأة من بلاده، يحبها وتحبه.

كان الجدار حاضرا في هذه الرواية أيضا، فحياة الفلسطينيين محاطة دوما بالجدران، وبحرفة يستطيع الإسرائيلي عزلها عن العالم.

من السرد: "أهو حقا جدار فصل عنصري، أم عتبة تفصل بين عالمين متناقضين، عالم المركز وعالم الهامش، عالم أورا شابيرا، وعالم نور الشهدي".

ذاكرة

أما الأسير وليد دقة الذي غادر العالم قبل أيام، داخل معتقله، فقد ألف من داخل جدران السجن كتبا عدة، تعنينا منها في سياق هذا المقال رواية "حكاية سر الزيت" الصادرة عن "مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي"، 2018. وخلالها حاول دقة أن يبقي  الأثر النضالي الفلسطيني، بحيث لا يتخلف عن الرحلة الثورية التي كان جزءا منها.

إن الرواية في هذه الحالة، هي بمثابة ذاكرة السجين بشكل أو بآخر، ومحاولة لإثبات الوجود، وكأنها نداء عبر مكبّرات الصوت السردية: هنا السجن، هنا سيرة إنسان، أو لربما ورقة مهمة من أوراق الحكاية الفلسطينية. إنه الخوف من الدخول في دائرة التلاشي خلف جدار  سميك، الحياة في ظله تبدو شديدة الإرهاق. ولا ينال المحتجز خلف الجدار، سوى التأخر أو الانعزال عن الحياة الطبيعية، بصوتها وإيقاعها المختلف تماما عن بيئة السجن.

في رواية "سر الزيت" المكتوبة لليافعين، وعلى مدار مئة صفحة، تبرز إرادة وحالة استنفار، ورغبة شديدة في الانطلاق نحو الحياة، تلك الخفة التي حملتها اللغة والأفكار، خلال السرد، تنم عن أن السجن بقدر ما يحمل المخاوف، يحمل أصل الحكاية، كمن يعيد النار إلى أصلها، فتبقى شعلة السجين في حب وطنه، لا تنطفئ.

إذ لا يغيب الرفض عن المعنى الذي يدور دقة في رحابه، رفض للسجن، للتقييد، للقمع، ورفض لقطع الأجنحة من الجسد، والبقاء داخل الأقفاص، في حين أن الأرض تتسع لكل أحلام الفلسطينيين. في هذا تبدو الدعوة الى الحرية والقفز عن الحاجز ومن فوق الجدران، واقتحام عناصر المشهد الضبابي لتشكيل الرؤية وفكفكة الغامض، في سرده تبدو الحرية دوما على الجانب الحي من النهر، لا العكس.

إذ أن البطل الصغير جود، هو نبتة المستقبل التي يطمح إليها دقة، رسالته التي كان يخشى أن يموت قبل إيصالها الى النشء، لتبقى القضية في طريق طهارتها ذاته. يصمم جود على الذهاب لزيارة أبيه في السجن، مقتحما، ورافضا فكرة التصريح، والتحكم، والقوانين المزاجية التي يفرضها المحتل. جود كان الحلم الفلسطيني، يمضي من خلال الرواية الأصل لأهل الأرض.

من السرد: "بدَّك تزوره في السجن؟!"، سألت المرأة باستهجانٍ شديدٍ بعد أن سمعت إجابة جود. "كيف بدَّك تزوره بدون تصريح؟ لأ ما بصير"، ثم واصلت حديثها بعد أن بقي جود صامتا، وقالت: "إلي ابن في السجن، كل سنة تا يطلعلي تصريح، ومرَّات بصل باب السجن وما بيخلُّوني أزوره. إنتَ لازم ترجع على بيتكم، إنتَ بعدك صغير، هذي مخاطرة!". "واللِّي بتعملوه مش مخاطرة؟ كلنا بنخاطر. لو كنت بنظرهم صغير كان أعطوني تصريح! أنا من يوم ما انولدت وأنا بنظرهم كبير، وخطر أمني ممنوع من الزيارة"، ردَّ جود بلا تردُّدٍ أو تفكير".