في الداخل، يجسد المكان صورة واضحة من الفرز: أولاد السوريين مع أهاليهم يلعبون في الطرف الشرقي، وأولاد اللبنانيين في الطرف الغربي.
هذا ما لفتت إليه وردة، لاجئة سورية من ريف حلب جاءت بصحبة ولديها "انقسمنا من تلقاء أنفسنا، وهذا أفضل"، مستطردة بأن المخالطة تجتلب المشاكل، فقد تعرضت قبل قليل لكلام عنصري داخل حافلة عمومية "قالت إحداهن، لو كنت أعلم أن في الحافلة سوريين لما صعدت إليه". تعلم وردة أنها الحلقة الأضعف وتفضل الصمت. تتساءل أمامنا "طالما أننا استقللنا الحافلة نفسها، هذا يعني أننا متساوون. لماذا إذن تعاملني بفوقية؟".
تعمل وردة مصففة شعر "علمت بالصدفة من زبونتي عن التطبيق الذي يلاحق اللاجئين". يطاردها الخوف "هربنا من الشرطة، والآن ظهرت لنا شرطة أخرى"، مضيفة أن العودة إلى سوريا ليست خيارا، لأن زوجها مطلوب للتجنيد الاجباري. تضحك متسائلة "كيف يعلمون أننا سوريون؟ هل يقرؤون ذلك على جبيننا؟".
وفي ما تنتقل إلى القسم الثاني من الحديقة، يخترق المسامع حديث بين رجلين مسنين "صرنا نستغرب إن قال أحدهم أنا لبناني"، ليرد الآخر "معك حق". ويحدث قبل دخولك الحديقة، أن يستغرب سائق سيارة الأجرة الوجهة، "لماذا؟ الحديقة مليئة بالسوريين!".
طبقية شاملة
تُدين اللبنانية منار شيا وضع البلاد: "جميعنا في أزمة، لاجئون وغير لاجئين. وجميعنا يبحث عن فسحات الترفيه. لم نكن نرتاد الحديقة العامة من قبل. وهي ليست أفضل ما نستطيع توفيره لأطفالنا. لا يوجد قواعد للسلامة مثلا"، مشيرة إلى ركن الألعاب، حيث يرافق زوجها ابنتهما مريم.
إلى جانب ضعف قواعد السلامة في ركن الأطفال، عناصر عديدة تنغص الرغبة بالاستراحة أو الترفيه، منها قلة عدد المقاعد، فعمد البعض إلى اقتعاد الأرض، كما يمنع اصطحاب الحيوانات، بحسب لافتة معلقة عند المدخل- وهو الوحيد، فقد يضطر الزائر إلى أن يدور حول مساحة تبلغ حوالي 22000 متر مربع ليبلغ الباب.
تضيف منار أن العائلة في فصل الشتاء تلازم البيت، لأن لا مكان مخصصا للأطفال يستطيعون زيارته. وهذا الوضع مستجد، لأنهم كانوا يقصدون مدنا للأطفال وقاعات لعب خاصة قبل الأزمة، وقبل أن تفقد منار عملها وينهار راتب زوجها الأستاذ في التعليم الرسمي.
المخططة المدينية والباحثة جنى نخال، تحيل هذه المعطيات إلى "فهم السلطة لدور المساحات العامة، والتي يفترض أن تكون محفزا لبناء العلاقات الاجتماعية والانتماء للمدينة، وللتعبير والمتعة والاسترخاء، بينما السلطة تجدها حجة للسيطرة على الناس وغربلتهم، وتقديم خدمات للقلة القليلة المترفة".
تشرح: "تضم بيروت 24 حديقة عامة، وتحتضن حوالي 0.8 مترا مربعا من المساحة الخضراء لكل شخص، في حين أن المعدل الذي تنصح به منظمة الصحة العالمية هو 9 أمتار مربعة للشخص الواحد. وعلاوة على قلة المساحات، يتركز الخلل في القرار بشأنها، وعملية التصميم، والتصميم في حد ذاته، ودور الحديقة، ومقاربة السلطة لها. فبداية، لا يتم القرار بإنشاء حديقة جديدة بشكل تشاركي، ولا يستجيب لحاجات الناس. كما أن عملية تصميم الحديقة تحدث في غرف مغلقة و"بين مختصين وخبراء ومهندسين"، دون إشراك الناس. والتصاميم بحد ذاتها غالبا ما تغفل فكرة أن المساحة عامة، وأن الجميع يحق له استخدامها بالشكل المناسب، ولا يجري تأمين مرافق للراحة ولاستمتاع الناس، مثل حمامات نظيفة، ومقاعد مريحة وكافية ومساحات لعب للأطفال، وملاعب للرياضة".
تهديد المهمشين
كانت جنى نخال واحدة ممن رفعوا الصوت ضد تطبيق "بلغ"، وكتبت شعار "كل مواطن فاشي" في ذمها لشعار الحملة، معتبرة أنها نتاج طبيعي لإرادة السلطة: "حولت السلطة في لبنان المساحة العامة إلى مكان تهديد لكل الفئات المهمشة، من اللاجئين، حتى النساء، والعمال المهاجرين، والمفقرين وغيرهم. وتتأثر هذه الفئات بأشكال عديدة، أولها فقدانها الانتماء للمكان، لبيروت ككل وللمساحة العامة بشكل خاص، وفقدان الشعور بالأمان، حتى أنها تتجنب استخدام المكان العام إن امتلكت الخيار"، تقول لـ"المجلة".
وينتج هذا النمط، بحسب الباحثة، "بترا للعلاقة مع المساحة العامة، واعتبارها مصدرا وحقا للأكثر قوة وامتيازات، كما يُنتِجُ ذلك فرضا لقدسية الملكية الخاصة، وبالتالي ربط الحق بالامتيازات: من يحق لهم باستخدام المكان العام، هم من يمتلكون امتيازات الطبقة والجنسية والنوع الاجتماعي والسلطة".
ووفق نخال، يعبر إطلاق التطبيق عن منحى عام لممارسات السلطة ضد اللاجئين السوريين، من القمع والسجن والحظر والقتل، منها جريمة قتل شابين من الجنسية السورية من قبل أعضاء فوج بلدية بيروت في منطقة الأونيسكو. ويضاف إلى هذه الممارسات تغييب الخدمات أو رفع أسعارها، في نية السلطة لخلق طبقة من المفقرين المفتقدين لأبسط الحقوق بما فيها شبكة للحماية والراحة، مقابل نمو الطبقة الأكثر غنى. وبالتالي، فمن خلال جعلها الحرمان من الحقوق هو القاعدة، تثبت السلطة واقعا اجتماعيا سياسيا جديدا، تتفتت فيه العلاقات الاجتماعية.