شكّل رد طهران على مهاجمة إسرائيل القنصلية الإيرانية في دمشق، في مطلع هذا الشهر، مفاجأة. فهذه المرة لم تستخدم إيران العبارة المعهودة عن "الرد في المكان والزمان المناسبين"، وإن انتظرت قرابة الأسبوعين. وهي عبارة ظلت ترددها طوال السنوات الماضية بالشراكة مع نظام بشار الأسد لدى تعرضهما لهجمات إسرائيلية.
مصدر المفاجأة أيضا أتى من واقع أن إيران تلقت سابقا كثيرا من الضربات الإسرائيلية القوية، استهدفت بعض المفاعلات النووية في إيران ذاتها واغتيال شخصيات قوية ومركزية في "الحرس الثوري" وفي الميليشيات التابعة لها في سوريا ولبنان والعراق، ضمنها اغتيال محسن فخري زاده مهندس مشروعها النووي (أواخر 2020 قرب طهران)، ورضي موسوي الرجل الثاني في الحرس الثوري الإيراني (24/ 12/ 2023- دمشق)، إضافة إلى عشرات الضربات التي استهدفت قوافل ومخازن الأسلحة في سوريا والعراق ولبنان.
على ذلك، فنحن هنا إزاء تحول على غاية من الأهمية في سلوك إيران، التي كانت تفسر عدم ردها على اعتداءات إسرائيل بإحالة ذلك إلى ما تسميه "الصبر الاستراتيجي"، وعدم الرد على استدراجات إسرائيل لها، بإيحاء أنها تهيئ ذاتها لمعارك مصيرية، بما يشبه كلام الرئيس السوري السابق حافظ الأسد عن "التوازن الاستراتيجي" الذي تبين عن مجرد دعاية لا أكثر، الغرض منها التغطية على تعزيز قوة النظام في الحكم، وعلى مستوى الإقليم.
إذن، فقد استطاعت إسرائيل هذه المرة استدراج إيران إلى المواجهة مباشرة، بعد أن زادت من استفزازها طوال الأشهر الستة الماضية، بالتوازي مع الحرب التي تشنها ضد فلسطينيي غزة، رغم أن إيران، على لسان قادتها من المرشد إلى الرئيس ووزير الخارجية، أعلنوا مرارا وتكرارا، عزوف إيران عن التدخل في تلك الحرب، والنأي عن شعار "وحدة الساحات" الذي كانت قد صكته مع أطراف محور المقاومة والممانعة، الذي تبين في التجربة أنه مجرد شعار للتلاعب والتورية والابتزاز لا أكثر.
في الواقع فإن إيران لم تكتف بذلك، إذ أثبتت امتثالها أيضا عبر وضع حدود لمداخلات "حزب الله" في حرب إسرائيل ضد غزة، باعتباره درة جماعاتها الميليشياوية في المشرق العربي، سيما أن هذا "الحزب" لعب دوره، كأداة إقليمية لإيران، في سوريا وحتى في العراق، إضافة إلى دوره في لبنان. لذا فهي تعتبره بمثابة جزء من أمنها القومي، ولا تريد التضحية به في تلك الحرب الطاحنة في غزة، رغم أن إسرائيل ظلت توجه الضربات لقواعده، ومناطق انتشاره في لبنان، بل ووسعت ذلك إلى بعلبك والبقاع والضاحية الجنوبية، وطبعا في سوريا.
نحن إزاء تحول على غاية من الأهمية في سلوك إيران، التي كانت تفسر عدم ردها على اعتداءات إسرائيل بإحالة ذلك إلى ما تسميه "الصبر الاستراتيجي"
هكذا، ثمة عوامل عديدة ضغطت على صانع القرار الإيراني باجتياز تلك العتبة، والرد على الاعتداءات الإسرائيلية، ضمنها، شعور إيران بأنها باتت تفقد مصداقيتها، في "محور المقاومة والممانعة"، وهو أمر جاء بطريقة خجولة على لسان بعض قياديي حركة "حماس"، في الأشهر الأولى من هجوم إسرائيل على غزة، بل إن موقف هذا المحور بات ضعيفا، بعد كل ذلك الاستفراد الوحشي بقطاع غزة طوال أكثر من ستة أشهر.
يأتي في ذلك، أيضا، تزايد وتصاعد الهجمات الإسرائيلية على مواقع إيرانية، ما رجّح في القيادة الإيرانية، ربما، كفة أصحاب خيار الرد المباشر، ولو بشكل محدود، على شكل مسيرات، وصواريخ.
ثمة عامل آخر، وهو شعور إيران بأن الأوضاع لا تسير على النحو الذي توخته فلسطينيا، وعلى مستوى الإقليم، إذ إن حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة، خلقت نوعا من التضامن العالمي، الدولتي والمجتمعي، مع قضية الفلسطينيين، ما نجم عنه وضع مطلب إقامة دولة فلسطينية على رأس جدول الأعمال العالمي. أما على الصعيد الإقليمي فإن الولايات المتحدة استعادت زمام المبادرة باتجاه إعداد صفقة ذات طابع سياسي وأمني واقتصادي على مستوى الإقليم، بالتوازي مع تسوية حرب غزة، وإحياء فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة، ما سيضع إيران في زاوية ضيقة، ويضيع كل ما راهنت عليه، أو ما بنته طوال العقود الماضية.
في كل حال، نحن إزاء تطور جديد في موقف إيران، وهو أحد أهم تداعيات حرب إسرائيل ضد غزة، مع ذلك فثمة شبهات عديدة لا بد من طرحها. أولها أنه إذا كان الرد الإيراني سياسة خالصة في مواجهة إسرائيل، بعيدا عن الاعتبارات الثلاثة السابقة، فكان الأولى بها القيام بذلك في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، الذي كان بمثابة فرصة سانحة، في وقتها، وفقا للمنطق الذي طالما روجت له، عن قدرتها على تسوية إسرائيل في الأرض في غضون أيام. وثانيها، أن هذه الضربة لو كانت جدية، أو لو كانت إيران ستذهب فيها بعيدا، لكانت أطلقت يد "حزب الله" في شن هجمات واسعة على إسرائيل. وثالثها، أن إيران تفعل كل ما تفعله، وضمنه استغلال القضية الفلسطينية، وهي تشتغل من أجل تحصين النظام فيها، وتعزيز نفوذها الإقليمي، إذ من غير المعقول أنها تريد مقاومة إسرائيل أو إضعافها، بينما هي عملت على تفتيت أو تصديع بنى الدولة والمجتمع في المشرق العربي، في العراق ولبنان وسوريا، بما فيه تشريد أكثر من عشرة ملايين سوري من بلدهم؛ فذلك يقوي إسرائيل ولا يضعفها.
في الغضون، لا ننسى أن إسرائيل ضربت المفاعل النووي العراقي (1981) في ظل الحرب العراقية- الإيرانية، ما احتسب لصالح إيران، في حين جرى التفاوض بـ"صبر استراتيجي" أميركي على المفاعلات النووية الإيرانية، ولا ننس أن الولايات المتحدة سلمت العراق لإيران (2003) على طبق من فضة، بعد إسقاط نظام صدام عبر ميليشياتها الطائفية المسلحة، ولا ننسى أن تزايد نفوذ إيران في سوريا تم بسماح أو بسكوت إسرائيلي (وأميركي).
إيران تفعل كل ما تفعله، وضمنه استغلال القضية الفلسطينية، وهي تشتغل من أجل تحصين النظام بها
ثمة ملاحظتان هنا. الأولى أننا لا نملك ترف المفاضلة بين طرفين عدوين، إسرائيل إزاء الفلسطينيين والمشرق العربي، وإيران إزاء سوريا والعراق ولبنان واليمن. والثانية، الخشية من أن ذلك الهجوم غير الجدي، وغير المجدي، قد تستثمره حكومة نتنياهو لاستعادة صورة إسرائيل كضحية، ولكسر التضامن الدولي مع الفلسطينيين، واستدرار الحماية والسلاح من الأطراف الدولية، ولتبرير الإمعان في حرب غزة وربما الهجوم على رفح.
على أية حال، من المبكر التقرير بشأن إلى أين ستذهب إيران أو إسرائيل من هنا. فهل ستواصل إيران، ما فعلته، أم ستكتفي بالوقوف عند تلك الحدود، حفاظا على مكانتها وهيبتها؟
وبالنسبة لإسرائيل والولايات المتحدة، السؤال هو: هل انتهت فترة السماح لإيران؟ أو هل آن أوان تحجيمها، بعد أن أنجزت ما أنجزته لهما في المشرق العربي، وتحسبا من "7 أكتوبر" جديد من لبنان أو من إيران؟ هذا ما يفترض تبينه من الرد أو عدم الرد الإسرائيلي في قادم الأيام.