"ليلة سقوط المسيرات"... مصير التنازع على الردع بين إسرائيل وإيرانhttps://www.majalla.com/node/314861/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D9%84%D9%8A%D9%84%D8%A9-%D8%B3%D9%82%D9%88%D8%B7-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D9%85%D8%B5%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%86%D8%A7%D8%B2%D8%B9-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%AF%D8%B9-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84-%D9%88%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86
الردع والمبادرة. هما الكلمتان اللتان يجري التنافس على امتلاك معانيهما بين إيران وإسرائيل. ليلة 13- 14 أبريل/نيسان كانت درسا طويلا وعميقا متعدد الجوانب: الحرب الحديثة. التحالفات الدولية. القدرات الاقتصادية. التماسك السياسي الداخلي.
في البيانات الرسمية، أعلنت طهران وتل أبيب تحقيق أهدافهما. قالت إيران في تغريدة لبعثتها بالأمم المتحدة على موقع "إكس" إن القضية تعتبر "منتهية" وهو ما أكدته ايضا في رسالة الى الولايات المتحدة عبر تركيا، إلا إذا مضت إسرائيل نحو التصعيد.
وفي المقابل، تحدثت الصحافة الإسرائيلية صبيحة الهجوم الإيراني عن ضرورة التريث في التخطيط للرد الإسرائيلي إذا حصل، وإبداء الحذر من الاندفاع نحو عملية عسكرية قد تكون لها انعكاسات غير محسوبة.
مهما يكن من أمر، فإن الرد الإيراني غير المسبوق والمنطلق من الأراضي الإيرانية نحو إسرائيل، كان محاولة جدية لاستعادة قدرة الردع التي لحقت بها أضرار شديدة تراكمت طوال سنوات، من خلال عدد من الخطوات العسكرية والأمنية الإسرائيلية: في الداخل الإيراني كاغتيال العلماء الإيرانيين العاملين في البرنامج النووي وتخريب عدد من منشآت البرنامج هذا. أو في الخارج بجعل قصف المواقع الإيرانية في سوريا وأحيانا في العراق، عملا شبه يومي. الردود الإيرانية السابقة، على غرار العملية الانتحارية التي نفذها اللبناني– الفرنسي محمد حسن الحسيني في بلدة بورغاس البلغارية ضد باص سياحي إسرائيلي في يوليو/تموز 2012، انتقاما لسلسلة الاغتيالات الإسرائيلية للعلماء النوويين الإيرانيين، لم تكن بالقوة التي تحول دون تكرار إسرائيل عملياتها على ما يبدو.
بعد مقتل الجنرال رضا زاهدي ومساعديه في القنصلية، أصبحت قدرة الردع الإيرانية في حالة يرثى لها
في المقابل، أصيب الردع الإسرائيلي بخسارة تداني الفضيحة بعد نجاح هجوم "حماس" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول. فقد شكلت عملية "طوفان الاقصى" صفعة قاسية على وجه كل ادعاءات التفوق العسكري والاستخباري الإسرائيليين عندما تمكن أكثر من ألف مسلح فلسطيني من الوصول إلى مسافة 35 كيلومترا من حدود قطاع غزة وقتل وأسر مئات العسكريين والمدنيين الإسرائيليين وسط ارتباك على المستوى القيادي وتخبط في التعامل مع التوغل الفلسطيني استمر إلى ساعات بعد الظهر من ذلك اليوم. كانت استعادة الردع مهمة مركزية في الهجوم الإسرائيلي على غزة والتعويض من خلال المبالغة في العنف والقتل وتدمير البنى التحتية الفلسطينية المدنية بكافة مكوناتها، عن الفشل الكارثي في اليوم الأول من الحرب.
بعد ذلك، كرست إسرائيل حريتها المطلقة في توجيه الضربات التي شملت الضاحية الجنوبية لبيروت، معقل "حزب الله" اللبناني، إضافة إلى دمشق ومحيطها، وحلب التي شهدت في مارس/آذار الماضي غارات شديدة العنف أفضت إلى مقتل عدد كبير من عناصر الميليشيات الموالية لإيران.
بكلمات ثانية، مع الغارة الإسرائيلية على القنصلية الإيرانية في منطقة المزة المتاخمة لدمشق، سجل انهيار كامل لمنظومة الردع الإيرانية، بعدما كان الأميركيون قد أخرجوا الجناح العراقي من "محور المقاومة" عن العمل، على أثر الهجمات الشرسة التي شنوها على الفصائل الولائية العراقية عقب مقتل ثلاثة جنود أميركيين في "البرج 22" شرقي الأردن يوم 28 يناير/كانون الثاني الماضي وبعد نجاح التحالف الدولي في الحد من آثار الهجمات الحوثية في البحر الأحمر من خلال عملية "حارس الازدهار" واتضاح تواضع قدرات الميليشيات المتحالفة مع طهران في صنعاء على تغيير مجرى الحرب في غزة.
يضاف إلى ذلك أن "حزب الله" اللبناني وعلى الرغم من مباشرته شن هجمات عبر الحدود على أهداف إسرائيلية غداة "طوفان الاقصى"، لم تترك هجماته أثرا يذكر على العمليات الإسرائيلية الموجهة ضد "حماس"، رغم خسارته نحو 300 من عناصره إضافة إلى عشرات المدنيين اللبنانيين وتدمير كثير من القرى في جنوب لبنان وتهجير أهلها.
بهذا المعنى، ليس من المبالغة القول إن قدرة الردع الإيرانية أصبحت- بعد مقتل الجنرال محمد رضا زاهدي ومساعديه في القنصلية بدمشق- في حالة يرثى لها. وباتت ضرورة الرد الإيراني مرتفعة للغاية لسحب أي توجه إسرائيلي إلى التصعيد من خلال توجيه المزيد من الضربات قد لا تستثني الداخل الإيراني في حال لم يأت رد قاس من طهران.
بحسب الأرقام الإسرائيلية، كلفت ليلة من القتال نحو 1.33 مليار دولار
النقاش تركز في الأيام الاثني عشر الفاصلة بين الغارة في الأول من أبريل وبين الرد ليلة 13- 14 أبريل حول شكل الرد وأدوات تنفيذه، هل يتولاه وكلاء إيران أم تقوم به القوات الإيرانية مباشرة، خصوصا أن زاهدي شخصية عسكرية رفيعة المستوى في "الحرس الثوري". ولم تكن مفاجئة الأنباء التي نشرتها الصحافة الغربية عن اتصالات عبر عدد من الوسطاء لمحاولة تقديم "ثمن" معين إلى طهران لتخفيض مستوى ردها وحصره قدر الإمكان، مع التلويح بإمكان لجوء إسرائيل إلى توجيه ضربات نوعية في الداخل الإيراني وصلت إلى التلويح باستخدام "القنبلة الكهرومغناطيسية" القادرة– على ما يقال– على إخراج كل الشبكة الكهربائية الإيرانية من الخدمة. وتبين لاحقا أن الاثمان التي عرضت على إيران لم تكن كافية أو مقنعة.
من المهم هنا تسجيل أن الرد الإيراني باستخدام نحو 400 مسيرة من طراز "شاهد 238" التي تستخدم محركا نفاثا خلافا للطرازات الأقدم المعتمدة على محركات ذات دفع مروحي، وصواريخ "خيبر شكن" التي دخلت الخدمة في 2022، وصواريخ "كروز"، كان عملا شديد الجدية، ورمى إلى ضرب القواعد العسكرية الإسرائيلية وتكبيد إسرائيل خسائر في الأرواح. لكن الأهم أن الهجوم الإيراني صُمم على نحو لا يظهر كامل القدرة القتالية ولا يستدرج ردا حتميا من إسرائيل في حال تسبب في سقوط عدد كبير من القتلى الإسرائيليين. وتحصر المصادر الإسرائيلية الإصابات في 31 إصابة طفيفة وواحدة خطيرة.
وهذه المحصلة تتيح لإسرائيل إبقاء ردها طي التكهنات على الرغم من قول عضو مجلس الحرب الحكومي بيني غانتس ان اسرائيل "سترد في الوقت المناسب" على الهجوم الايراني.
جانب آخر يتعين الالتفات إليه: لقد ظهر مجددا حجم الدعم الأميركي، والغربي تاليا، لإسرائيل. وليس تفصيلا أن تساهم القوات الأميركية والبريطانية (التي انطلقت طائراتها من قبرص)، ودول غربية أخرى في القتال المباشر دفاعا عن إسرائيل. هذه النقطة قد تكون مجرد رأس جبل الجليد الظاهر في التحالف الذي عمل على إفشال الهجوم الإيراني. ذلك أن التحالف الغربي والإقليمي حول إسرائيل، حال دون أن تجني إيران النتيجة التي كانت تأملها. أما حلفاء إيران المفترضون، أي روسيا والصين، فلم يكونوا في وارد التدخل لا ميدانيا ولا سياسيا، حيث اكتفت موسكو، على سبيل المثال ببيان فاتر عن "ضرورة ضبط النفس". من هنا، قد يجد قادة "محور الممانعة" ضرورة لإعادة النظر في تحالفاتهم على الساحة الدولية وقدرتهم على تجنيدها في اللحظات الحرجة.
وبحسب الأرقام الإسرائيلية، فقد كلفت ليلة من القتال الذي جرى باستخدام طائرات "إف-35"، و"القبة الحديدية"، و"مقلاع داود"، ما بين 4 إلى 5 مليارات شيكل (1.33 مليار دولار) من دون حساب تكاليف التدخل الأميركي والغربي. هذه الناحية تتطلب اهتماما. ذلك أن الكلفة الاقتصادية للصراع تنعكس بطرق مختلفة على إيران الخاضعة للعقوبات الأميركية والتي يعاني قسم كبير من سكانها من ضائقة اقتصادية قاسية، وعلى إسرائيل التي يعتبر اقتصادها من بين الأكثر تطورا في العالم ناهيك عن الأرصدة المفتوحة التي قدمت لها منذ 7 أكتوبر.
ويمكن القول إن في وسع إسرائيل تحمل كلفة أيام مشابهة ليومي 13 و14 أبريل مرات عدة، في حين أن على إيران أن تضع في حسابها الكلفة الاقتصادية حتى لو كانت المسيرات والصواريخ التي استخدمتها أرخص بكثير من تلك الإسرائيلية والأميركية.
الاحتفال الغربي بالنجاح الإسرائيلي يرقى إلى "تبييض" صفحة حكومة نتنياهو من قتل المدنيين والأطفال في غزة
وفي ما يتعلق "باليوم التالي"، ثمة معطيات لا يمكن أن تغيب عن بال مراقب. منها أن "سلاح الفقراء" الذي دار كلام كثير حوله والمتمثل في المسيرات والصواريخ البالستية التي يفترض أنها عوضت النقص في سلاح الطيران، قد ظهرت نقاط ضعفه في مواجهة عدو قوي ومستعد. وليس مستبعدا أن تبدأ قوى دولية عدة في استخلاص الدروس من الفشل الإيراني. وقد يبدو من المبكر الإعلان عن نهاية عصر المسيرات الذي لم يعمر طويلا، لكن الواضح أن التفوق التكنولوجي الإسرائيلي والغربي قد حيّد هذا السلاح وهو ما ستكون له أصداء سريعة على الجبهة الشمالية الإسرائيلية، على سبيل المثال، حيث حاول "حزب الله" في اليومين السابقين على الهجوم مشاغلة منظومة "القبة الحديدية" واستنزافها بإطلاقه عشرات الصواريخ التقليدية إلى الداخل الإسرائيلي. لذلك، قد يكون "الحزب" في صدد إعادة النظر في قدراته الهجومية.
كما لا ينبغي أن تغيب الحرب في غزة عن الأذهان. فالاحتفال الغربي بالنجاح الإسرائيلي يرقى إلى مستوى "تبييض" صفحة حكومة نتنياهو من كل ما علق بها من أدران ناجمة عن قتل المدنيين والأطفال في غزة. فهل سيعني ذلك منح الإذن باقتحام رفح و"القضاء على حماس" كما يطلب الإسرائيليون؟ خصوصا بعدما ظهرت متانة التحالف الإسرائيلي الغربي؟ وهل ستنقض إسرائيل على "حزب الله" وتجعل لبنان "شبيها بغزة" كما توعد ضباط الجيش الإسرائيلي مرات عدة في الشهور الماضية، استنادا إلى ارتفاع أسهم إسرائيل بعد نجاحها في إحباط الهجوم الإيراني، من جهة، فيما يفتقر لبنان ليس إلى الحلفاء الخارجيين فحسب، بل إلى الحد الأدنى من التماسك الداخلي في ظل التوتر الطائفي المتفاقم واستمرار الازمة الاقتصادية وبعد التساؤلات حول حقيقة قوته الصاروخية؟
في الختام، يعاد في الأيام هذه تشكيل موازين القوى وعلاقاتها وقدراتها على الردع والمبادرة وسط انسداد شبه كامل في طرق العملية السياسية.