عام من الدم والدخان... كفى السودانيين ويلات الحربhttps://www.majalla.com/node/314841/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%B9%D8%A7%D9%85-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%85-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%AE%D8%A7%D9%86-%D9%83%D9%81%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86%D9%8A%D9%8A%D9%86-%D9%88%D9%8A%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8
اليوم، أكملت "حرب 15 أبريل" اللعينة في السودان عامها الأول. عام كامل منذ انفجار شرارة جنون النزاع على السلطة والسيطرة في قلب العاصمة السودانية الخرطوم بين ميليشيا "قوات الدعم السريع" ومالكها محمد حمدان دقلو المعروف بـ"حميدتي" من جهة، وقوات الجيش السوداني وقائدها العام عبد الفتاح البرهان من جهة أخرى. عام كامل من الحرب التي خلّفت وراءها دمارا هائلا، وفقدانا لا يُعوض، وندوبا لا تُمحى من ذاكرة شعب عريق صبر على خذلان الساسة على مر التاريخ، لكن جراحه هذه المرة أعمق وأشد وجعا. عام كامل، وصورة السودان في أعين العالم محصورة في مشاهد الدمار والنزوح والتشرد والأرقام المتصاعدة لضحايا الانتهاكات.
كانت تداعيات الحرب على السودانيين كارثية بكل المقاييس، وزاد من وطأتها عجز المجتمع الدولي عن الاستجابة بتقديم حلول تساعد في وقفها. أصبح السودان موطن أكبر كارثة معاناة إنسانية بجميع المقاييس. حيث فقد أكثر من 14 ألفا من المدنيين أرواحهم وهم محاصرون في مناطق القتال. بينما شهدت المناطق التي سيطرت عليها ميليشيا "قوات الدعم السريع" حوادث لا تعد ولا تحصى من حالات النهب الممنهج والتهجير القسري، بالإضافة إلى انتهاكات العنف الجنسي واختطاف النساء والاغتصابات التي بلغ عددها 370 حالة موثقة بحسب تقرير حديث صادر عن "مركز كارنيغي لدراسات الشرق الأوسط". وهو رقم يرجح المراقبون والمنظمات الحقوقية أنه لا يعكس 2 في المئة من العدد الكلي للحالات في ظل المصاعب التي تواجه التبليغ عن هذه الانتهاكات وتوثيقها ناهيك عن تقديم الرعاية اللازمة لها، بالإضافة إلى مصاعب الوصول إلى ضحايا الانتهاكات في المناطق التي تسيطر عليها ميليشيا "قوات الدعم السريع".
لم تستثن هذه الانتهاكات طفلا ولا عجوزا، فقد وثقت "منظمة العفو الدولية" أن العشرات من النساء والفتيات- بعضهن لا يتجاوز عمرهن 12 عاما- تعرضن للعنف الجنسي والاحتجاز والعبودية الجنسية.
أجبرت الحرب أكثر من ثلثي سكان الخرطوم على مغادرتها، واحتلت "الدعم السريع" المرافق المدنية والبيوت بعد أن نهبتها
تشرد أكثر من 10.7 مليون سوداني من منازلهم، وتجاوز العدد التراكمي للأطفال النازحين 4 ملايين طفل، حيث نزح ما معدله 13 ألف طفل يوميا على مدار الـ300 يوم الماضية. ولجأ نحو مليونان منهم إلى خارج البلاد فيما توزع البقية في أرجاء البلاد الأخرى.
أجبرت الحرب أكثر من ثلثي سكان العاصمة الخرطوم على مغادرتها، واحتلت ميليشيا "الدعم السريع" المرافق المدنية والبيوت بعد أن نهبتها، متخذة من قتال "الإخوان المسلمين" والإسلام السياسي والتمايزات التاريخية لـ"دولة 1956" (عام استقلال السودان)، ذريعة لنهب ممتلكات الناس ومدخراتهم. واستند مرتزقة الميليشيا إلى تدليس المستشار السياسي لـ"حميدتي" يوسف عزت عن حربهم مع الإسلام السياسي، والتي وصلت إلى حد مغازلة إسرائيل للوقوف معهم من خلال تشبيه حربهم في السودان بحرب إسرائيل ضد "حماس". كما استند هؤلاء إلى أوراق عضو "مجلس السيادة" السابق محمد الحسن التعايشي عن إنهاء الاختلالات التاريخية في تكوين الدولة السودانية، والتي قدمها في مؤتمر حشد الدعم السياسي للميليشيا الذي انعقد في دولة توغو في يوليو/تموز 2023، وتنظيرات وزير العدل السابق عن نظم الحكم والإدارة التي قدمها في المؤتمر نفسه.
تبجح مرتزقة الميليشيا الذين استجلبوا لحصد الغنائم من شتى أنحاء السودان، بل وخارجه أيضا، كما شهدت تقارير الأمم المتحدة، بهذه الذرائع، للقول بأن هذه البيوت أصبحت لهم وأنهم لن يغادروها أبدا.
في دارفور، سيطرت "قوات الدعم السريع" على أربع من ولايات الإقليم الخمس، واحتمى السكان بولاية شمال دارفور التي لا تزال خارج نطاق النزاع حتى الآن. ولكن الميليشيا ارتكبت تجريدتها الأفظع في مايو/أيار، ويونيو/حزيران 2023 بولاية غرب دارفور، بعد أن اغتالت مطلع الحرب والي غرب دارفور، خميس أبكر، ومثّل جنودها بجثته وسط صيحات التهليل العنصرية، ثم انطلقوا بكل وحشية لارتكاب جرائم الإبادة العرقية والاستهداف والتصفية على أساس الانتماء الإثني ضد أبناء قبيلة المساليت.
70 في المئة من المرافق الصحية في المناطق التي تأثرت بالحرب توقفت عن العمل
وقد وثق تقرير من لجنة الخبراء المعنية بدارفور التابعة للأمم المتحدة مقتل 15 ألفا من المدنيين في الجنينة خلال أيام قليلة من الأحداث، بالإضافة إلى تشريد مئات الآلاف من السكان بواسطة "قوات الدعم السريع" والميليشيات الموالية لها. وتكررت المجازر والانتهاكات ضد مجتمع المساليت مرة أخرى في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، ووصفها المتحدث باسم "المفوضية السامية لحقوق الإنسان" جيريمي لورانس بالقول إن "المدنيين المساليت عانوا ستة أيام من الرعب على أيدي قوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها بعد سيطرتها على قاعدة للجيش السوداني في أردمتا يوم 4 نوفمبر". وقال إن بعض الضحايا "تم إعدامهم بإجراءات موجزة أو حرقهم أحياء".
كما وثق "مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان" وجود مقابر جماعية في ولاية غرب دارفور تضم جثثا لضحايا من المساليت وقبائل أخرى تم قتلهم على يد ميليشيا "قوات الدعم السريع"، بينما استمرت قرى ولاية الجزيرة تشهد الهجمات والغارات المتكررة بواسطة جنود الميليشيا لنهب الممتلكات ثم إجبارهم على النزوح.
هجوم الجوع
كشرت الكارثة الإنسانية عن أنيابها في وجه السودانيين، لتضع 24.7 مليون سوداني (14 مليونا منهم من الأطفال) في حاجة ماسة للمعونات الإنسانية، وهو الرقم الأكبر على الإطلاق بالمقارنة مع بقية الكوارث الإنسانية في العالم (21.6 مليون شخص في اليمن، و17.6 مليون شخص في ميانمار، و5.2 مليون شخص في هاييتي). ومع ذلك، لم يتم تقديم الإغاثة الإنسانية إلا إلى 5 ملايين شخص، وهو ما يمثل 20 في المئة من المحتاجين. فيما هجم الجوع على سلة غذاء العالم ليضع منذ 15 أبريل 2023، أكثر من 20.3 مليون شخص (49.5 في المئة من إجمالي السكان) في مستوى عالٍ من انعدام الأمن الغذائي الحاد.
ويشمل هذا العدد أكثر من 2.9 مليون طفل يعانون من سوء التغذية الحاد، و729 ألف طفل آخرين دون سن الخامسة يعانون من سوء التغذية الحاد الوخيم، وهو أخطر أنواع الجوع الشديد وأكثرها فتكا. ووفقا لتقديرات "منظمة إنقاذ الطفولة"، فمن المتوقع أن أكثر من 222 ألف طفل يعانون من سوء التغذية الحاد وأكثر من 7000 أم جديدة سوف يصلن إلى الموت من الجوع في الأشهر المقبلة إذا لم تتم تدخلات غذائية عاجلة، كما أن 109 آلاف طفل آخرين سيصابون بمضاعفات طبية جراء سوء التغذية تتطلب رعاية صحية مكثفة ومتخصصة من أجل إبقائهم على قيد الحياة. ولكن حجم الفاجعة يظهر عند النظر إلى أن 70 في المئة من المرافق الصحية في المناطق التي تأثرت بالحرب قد توقفت عن العمل، في حين أن بقية المرافق الصحية في جميع أنحاء البلاد، مكتظة بمرضاها.
بلغت الخسائر الكلية للحرب نحو 15 مليار دولار، وقدرت الكلفة اليومية للاقتتال نحو 100 مليون دولار
وفي مثال إحصائي مفزع على حجم كارثة الجوع في السودان، أفادت "منظمة أطباء بلا حدود" أن طفلا يموت كل ساعتين بسبب سوء التغذية في أحد معسكرات النازحين في الفاشر (معسكر زمزم). وساهم فشل الموسم الزراعي الماضي في تأزيم كارثة المجاعة في السودان. حيث انخفض إنتاج الحبوب إلى أقل من 46 في المئة، ومن المتوقع أن يكون إنتاج القمح أقل بنسبة 20 في المئة عن العام السابق. كما أدى اجتياح ميليشيا "قوات الدعم السريع" لولاية الجزيرة إلى تعطيل زراعة أكثر من مليون فدان بالمحاصيل الغذائية.
انهيار التعليم والاقتصاد
وتسببت الحرب في انهيار وشلل كامل للعملية التعليمية في السودان. حيث توقفت 120 جامعة ومعهدا للدراسات العليا تضم نحو 450 ألف طالب عن العمل في السودان. وانقطع التعليم المدرسي النظامي لنحو 19 مليون طالب في سنين التعليم الأساسي المختلفة. وعكست الصور حجم الخراب الذي أصاب مؤسسات ومكتبات وجامعات الخرطوم والفاشر ونيالا والجزيرة.
وعلى الصعيد الاقتصادي، تسببت الحرب في انهيار كارثي. حيث انخفضت إيرادات الدولة بنسبة 80 في المئة على الأقل، بينما تقلص متوسط دخل الأسر بنسبة 40 في المئة، وخسر أكثر من 50.3 في المئة من السودانيين مصادر دخلهم. ولا تقتصر هذه النسبة على الموظفين فحسب، بل امتدت لتشمل 20.4 في المئة من العاملين في مجال الزراعة و81.3 في المئة من العاملين في مجال الصناعة، بينما خسر 47.9 في المئة من العاملين في مجال الخدمات موارد رزقهم. وبشكل عام انكمش الاقتصاد السوداني بنسبة النصف تقريبا مقارنة مع وضعه قبل الحرب. وتوقفت أكثر من 66 في المئة من شركات ومصانع الأغذية في البلاد عن العمل، بينما تعمل 20 في المئة أخرى بأحجام مخفضة.
وقد بلغت تقديرات قيمة الخسائر الكلية للحرب نحو 15 مليار دولار، وقدرت الكلفة اليومية للاقتتال في السودان بنحو 100 مليون دولار. وانهارت قيمة الجنيه السوداني، لتعادل قيمته مقابل الدولار الأميركي الواحد 1300 جنيه، وهو ثلاثة أضعاف ما كان عليه قبل الحرب. وسجل الناتج المحلي الإجمالي انخفاضا بنسبة 48 في المئة بحسب أكثر التقديرات تحفظا. وبلغت الخسائر 21 في المئة في قطاع الزراعة و70 في المئة في قطاع الصناعة و49 في المئة في قطاع الخدمات.
كلما استمرت هذه الحرب وتطاول أمدها، زادت كلفتها وزادت معاناة السودانيين
ولكن الدمار الذي أصاب البنية التحتية في السودان، امتدت آثاره عبر الحدود. ففي منتصف شهر فبراير/شباط 2024 تسببت الحرب في تعطيل عمل خط أنابيب نقل النفط الشرقي والذي ينقل "مزيج دار" من جنوب السودان. وينقل هذا الخط 60 في المئة من إنتاج دولة جنوب السودان من النفط ويبلغ طوله 1500 كيلومتر، وبلغت تكلفة إنشائه نحو المليار ونصف المليار دولار. ويوفر هذا الخط إيرادات يومية قيمتها مليون دولار كرسوم نقل تدفعها حكومة جنوب السودان. كما يغذي بشكل أساسي )الوحدة-2) من مصفاة الخرطوم والمصممة خصيصا لمعالجة "مزيج دار" والتي تنتج 40 في المئة من احتياجات البلاد من مشتقات النفط المختلفة التي تشمل البنزين والديزل والفيرنس والغاز، وهو ما تعادل قيمته 3 ملايين دولار يوميا. كما يوفر هذا الخط الوقود اللازم لإنتاج الكهرباء في محطة أم دباكر الحرارية بمدينة كوستي والتي تغطي 45 في المئة من الإنتاج الحراري للكهرباء في السودان. كل هذا قد ضاع بسبب التصدعات التي أصابت خط الأنابيب ثم لاحقا تجمد خام النفط داخله بما جعله غير صالح للاستخدام تماما، وليس هناك جدوى اقتصادية من إصلاحه الذي تبلغ تكلفته أضعاف قيمته الحالية.
كلما استمرت هذه الحرب وتطاول أمدها، زادت كلفتها وزادت معاناة السودانيين جراءها. ولكن إيقاف الحرب يحتاج إلى تضافر الجهود وتوحيدها نحوه، وليس ربطه بالطموحات السياسية ورغائب الساسة لما بعد الحرب.
لم يكتب الله على السودانيين هذه المعاناة والدمار كقدر مفروض عليهم، بل كان ذلك بسبب صراع سياسي أُسيئت إدارته، وطموح وشبق للسلطة من بعض الذين لا يستحقونها. لم يكنْ هذا مقدّرا بشكل حتمي، بل هو خيارٌ قاسٍ اتخذهُ البعض، مُفضلين الصراع من أجل طموحاتهم الذاتية للحكم على مستقبل الوطن وآمال شعبه وتطلعات ثورته. اتخذوا من أجندات بعض الأطراف الخارجية مطية وسندا بدلا من خدمة شعبهم. والحصيلة كثبان رماد... كفى ما قدمه شعبنا من تضحيات، وكفاه ما عاناه من ويلات.