تُعيدنا الكاتبة السودانية رانيا مأمون إلى زمنٍ كانت فيه القصص حقيقية أكثر، وخارجة من حياة واقعية تعيش فيها شخصيات عادية لا تزال في حالتها الخام تقريبا. شخصياتٌ تحضر في القصص كما هي حاضرة تقريبا في الحياة. أما تفاصيل هذه القصص فهي مجلوبة أيضا من واقع يشبه تلك الشخصيات. القصص في هذا المعنى تبدو كأنها مكتوبة أو مرويّة قبل أن يتعرض فنّ القصة نفسه للتحديث والتجريب اللذين صارا أمرا ملازما لغالبية ما يُكتب من قصص اليوم. قصص رانيا مأمون مكتوبة بجوار هذا التحديث أو قبله. هي تعرف بالتأكيد، الكثير عن التجريب (وأحيانا المُبالغ فيه) الذي طرأ على هذا الجنس الأدبي الذي يتضاءل حضوره أصلا لصالح الرواية، لكنها تكتب ما تحب أن تكتبه أو ما تعرف كيف تكتبه. إنها تستجيب ذاكرتها ويومياتها وسخونة ما يحدث حولها وفي بيئتها السودانية، من دون أن تُعرّض ذلك لمهارات وألاعيب وحِيَل أسلوبية أو سردية أو غرائبية. كأنها تقترح علينا أنّ واقعها وحده يحتوي على ما يشفع لها أن تكتفي به، فهو مكتنز بالقصص والحكايات والحوادث، وكلُّ ما عليها فعله هو انتشال تلك الحكايات وإعادة كتابتها على شكل قصص. وهكذا يمكننا القول إن ما نقرأه في مجموعتها الجديدة، "امرأة وحيدة تحت شجرة النّيم" (دار المصورات/ الخرطوم)، هو قصص فحسب. قصص ونقطة على السطر.
لعبة سردية
في قصة واحدة ربما، هي القصة الأولى في المجموعة وتحمل عنوان "يومَ حالتْ ألوانُ الفراشة"، نجد شيئا من هذه الألاعيب بجرعة خفيفة لكنها مع ذلك مختلفة. هي لعبة فعلا، إلا أنها تحصل على تأثيرها بتجنّب أي لعبة أو مهارة مفترضة أو متوقعة. تتعرض بطلة القصة وهي فتاة في الثانية عشرة لاعتداء جنسي من الأستاذ الذي تأتي إلى بيته لتأخذ دروسا خصوصية في الرياضيات. المؤلفة فضّلت أن يحدث ذلك. أن لا ينقذ أحد الفتاة مما سيحدث لها. وأن تستسلم هي أيضا بعد مقاومة فاشلة طبعا. وأن تبدو خاتمة القصة مؤثرة ومدهشة بقوة هذا الخيار القصصي، إلى درجة أن القارئ يُدهَش بسلاسة حدوث القصة التي تقترح عليه أن لا تكون الإدانة أو حتى الشفقة على الفتاة – الضحية هي ما أول ما تثيره القصة في نفسه وذائقته، بل أن تدفعه إلى الإعجاب بالقصة نفسها، بينما يتأجل لديه الحكم على عملية الاعتداء التي تحدث فيها، بل يجد جمالا مختلفا وغريبا في ذلك كله. نعم، حضرت لعبة أو مهارة سردية ما، لكنها لعبة معاكسة للتجريب الدارج والمبالغ فيه. إنها لعبة ترك المجريات كما هي. أما النقطة الأكثر إدهاشا في القصة ذاتها، فهي أن المؤلفة، وعلى الرغم من أن القصة تُروى بضمير المتكلم، لا تمنح بطلتها المُعتدى عليها فرصة أن تقول رأيها أو إحساسها أو ألمها مما جرى.