اجتاح نبأ اغتيال ثلاثة من أبناء رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس"، إسماعيل هنية، وسائل التواصل الاجتماعي، في غمرة الدعاية التي تبناها الطرف المدافع عن سياسة حركة "حماس"، لإظهار أن قادة الحركة يقدمون أبناءهم أسوة بباقي الشعب الفلسطيني في حرب غزة، وهو ما حرص على تأكيده هنية نفسه، بعد عدة انتقادات وُجهت للحركة لوجود القادة السياسيين الأبرز خارجَ غزة بمن فيهم وزير الداخلية سابقا في غزة فتحي حماد، ووجود عدد من أبناء هنية في الخارج منهم عبد السلام هنية.
إلى جوار الكارثة الإنسانية كان لهذا الاغتيال أبعاد سياسية، فقرأه بعض المراقبين في إطار نية إسرائيل للضغط على مسار المفاوضات بينها وبين "حماس"، على أن الموقف السياسي لحركة "حماس" غير موحد، وذلك أن أعضاء المكتب السياسي في الخارج أظهروا أكثر من مرة أنهم لم يكن لهم دور في قرار السابع من أكتوبر/تشرين الأول، كما صرح بذلك خالد مشعل، وأن القيادة السياسية خارج غزة لم تكن تعلم بالعملية إلا من وسائل الأنباء، وإن حرصوا على الاستثمار الدعائي للحرب، إلا أنه لا يوجد دليل على أن هنية كان على علم بأحداث السابع من أكتوبر، إنما ظهر وهو يسجد بعد متابعته للأحداث عبر قناة "الجزيرة".
في الحركة تنقسم القيادة السياسية إلى حمائم وصقور، وعلى رأس الصقور محمود الزهار، ويحيى السنوار، فهما الأقرب إلى الجناح العسكري، ويظهر موقفهما الأبرز في ملف المصالحة الداخلية الفلسطينية مع حركة "فتح"، الذي انفجر فيه الموقف بعد قتال بين الجناح العسكري لحركة "حماس"، مع العناصر الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية في 2007.
وكانت قيادات مثل خالد مشعل قبل أحداث السابع من أكتوبر قد انتقدت تفرد "حماس" بحكم غزة، واعتبروا أن هذا خطأ لا يمكن له أن يستمر، ويُحسب إسماعيل هنية على هذا التوجه في الحركة، فترك القطاع المحاصَر بعد تصاعد الخلافات بينه وبين محمود الزهار والسنوار، وارتفعت لهجة الخلاف مع السنوار الذي سُرب له تسجيل صوتي في وقت سابق ينتقد فيه هنية، بعد حصول أحد أبناء إسماعيل هنية على الجنسية التركية، فرأى السنوار أن هذا يضعف موقف الحركة أمام الشعب الفلسطيني، بعبارته: "من لا يستطيع لجم تحركات أبنائه كيف سيخاطب سكان غزة؟".
الكلمة الأخيرة في "حماس" للسنوار داخل غزة، الذي يملك التأثير الواقعي على عناصر الحركة المسلحين
وجه إسماعيل هنية أكثر من مرة انتقاده لجدوى الأعمال العسكرية في غزة، معتبرا أنها لا تحقق عائدا مصلحيا على الشعب الفلسطيني، بل إنه قال في لقاء صحافي إنه يرفض أن يقوم أحد أبنائه بعمليات عسكرية، وانفتح على فكرة المصالحة الفلسطينية، وتشكيل حكومة وطنية، حتى إنه لم يظهر تعنتا بأن يلتقي وزراء هذه الحكومة الفلسطينية مع نظرائهم الإسرائيليين، وكان من قبل قد دعا إلى المشاركة في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، حين كان الجناح المتشدد للحركة يرفضها ويرى أنها إفراز لاتفاق أوسلو 1993، مما أدى إلى خلاف وصل إلى حد تجميد عضويته في الحركة حينها، قبل أن تعود الحركة لترشيحه في انتخابات 2006.
يأتي موقف هنية على خلاف الزهار الذي يوصف بالحرس القديم في الحركة، وينظر إلى فلسطين على أنها جزء من مشروع أكبر، وهو مشروع جماعة الإخوان المسلمين. وفي تسجيل مسرب كان قد قال إن فلسطين شيء صغير لا يمكن أن يعول عليه، فهي جزء من مشروع كامل في المنطقة العربية، يبدأ بتغيير أنظمتها السياسية ولا يتوقف عند ذلك. كما يتعنت الزهار في فكرة المصالحة مع السلطة الفلسطينية، التي يرميها بالخيانة. وفي جانب هذا التوجه- كونهم على الأرض في غزة- هم في الواقع، فالسنوار والزهار لم يغادرا القطاع، وهما من يقود الحركة إلى الصدام حتى آخر نفَس، أو حتى آخر طفل غَزي وفق تصريح للسنوار قبل أحداث السابع من أكتوبر، وعلى هذا يصبح تأثير القيادات السياسية المحسوبة على الحمائم هزيلا في صياغة قرار الحركة.
وانبعث السؤال مؤخرا: هل يعمق الاغتيال لثلاثة من أبناء إسماعيل هنية الشرخ بينه وبين قادة الصقور من الحركة؟
لا يبدو أن لهذا تأثيرا حقيقيا على المفاوضات، إذ تبقى الكلمة الأخيرة في هذا الملف للقيادات الداخلية، لا الخارجية، للسنوار داخل غزة، الذي يملك التأثير الواقعي على عناصر الحركة المسلحين، فبحوزتهم الأسرى الإسرائيليون، وهم الذين يصنعون المادة الأساسية لدعاية حركة "حماس" عبر إصدارهم للأعمال العسكرية التي يقومون بها في غزة ضد إسرائيل، ومهما قدم المكتب السياسي من تنازلات في المفاوضات، فالكلمة الأخيرة للسنوار، فبإمكانه أن يرفض اقتراحهم، وتعود المفاوضات إلى المربع الأول.
اغتيال ثلاثة من أبناء هنية يظهر حرص إسرائيل على تحويل مواقف "حماس" جميعا إلى لغة الصدام
على أن استمرار هذا الوضع بسيطرة الصقور على قرار الحركة، مرهونٌ ببقاء الوجود العسكري لـ"حماس" في غزة، وبقاء قادتهم أحياء في قطاع غزة، فإن بقيت حركة "حماس" بعد الحرب على القطاع فإن هذا يعني أن يذوي تأثير الحمائم في حركة "حماس"، ويكون المنتصر داخليا بشكل حاسم في هذه الحرب الصقور. أما إن نجحت إسرائيل في تحطيم القدرات العسكرية لـ"حماس"، وتحقيق ضربة قاصمة لهذا الجناح في الحركة، فإن هذا يفتح المجال لتأثير كبير داخل الحركة لهنية ومشعل، ومن معهما من الحمائم، فالتغيرات الداخلية في توزيع السلطة، تتبع النتيجة النهائية لهذه الحرب، ففي حال لم تستطع قيادة الصقور الحفاظ على الحركة، سينبعث الاقتراح بتحويل حركة "حماس" إلى حزب سياسي مشارك في السلطة الفلسطينية، ويكون لهنية ومشعل وأمثالهما الصوت الأعلى فيه.
لكن عملية الاغتيال لثلاثة من أبناء قائد في حركة "حماس"، محسوب على جناح الحمائم، تظهر حرص إسرائيل على تحويل مواقف الحركة جميعا إلى لغة الصدام، فمن مصلحتها أن تضحى جميع الحركة صقورا، للتملص من الضغط الأميركي، أو من أي ضغوط أخرى تسعى إلى منع إسرائيل من الاستمرار في حربها، فهي تدفع إلى مربع الحرب، وفي الوقت الذي كانت كريمة في إطلاق قذائفها، كانت في أشد الشح مع أي مبادرة سياسية، أو تنازل سياسي.