اللآلئ ظاهرة مادية تاريخية استندت طويلا إلى وعيٍ جمالي خاص، استطاعت فرض سيادتها بين المعادن الثمينة والأحجار الأخرى، ولعل مياه الخليج الدافئة التي يصب فيها نهران حلوان من دجلة وفرات، قادمان من أرض بيزنطة الممتلئة بالمياه السائغة، زحفت إلى بلاد الرافدين فشط العرب، وصبت في الخليج لتخفف ملوحته، ومن هنا صنع البحر في أعماقه الأصداف النائمة بلآلئها التي لا مثيل لها نحو إيقاع ومبتغى يبحث عنها الغواصون، وتبدأ الملحمة الشفاهية العتيقة التي لم تُكتب على الرغم من أنها أشبعت الذاكرة الجمالية لدى المقتدرين منذ آلاف السنين، ملحمة لم يَكْتُب وجع تفاصيلها سوى قلة من المؤرخين المحدثين.
فعبر آلاف السنين اجتهد الغاصة في إخراج الأصداف من القاع، والمهرة منهم قلة، فجميعهم ملتزمون البقاء في القاع إن استطاعوا دقيقة واحدة فقط، لجلب مقدار ما يصاد، وهو نحو خمس عشرة قوقعة، إلا أن ما يلاقيه الغواص كان غير طبيعي، من أهوال ومشاق وهواء البحر في الأسفل ومؤذياته، وكل الحيل التي كان يستخدمها للتخلص من الهوام أي الحشرات القاتلة، غالبيتها بلا جدوى، وفي أحوال أخرى هجوم القرش عليه، أو يصاب بلدغة سمك الشيطان المعروف بالهامّة، ومع ذلك كان يستمر من أجل رزقه، والنتيجة أن يمرض مع الوقت، ومع قلة العقاقير كان يعالج بالكي بالحديد المحمى.
وفي كل مرة يظن الغواص أنه يدخل البحر مستشعرا اليقين، وأنه سيخرج منتصرا بلا آلام، لكنه في كل مرة يغوص، لا بد أن يستقبل عنف التيارات التي تجرفه نحو الأسفل دون سيطرة منه، وكم منهم قضى نحبه بسبب هذه التيارات المفاجئة، وقلة من حالفهم الحظ بأن أدركه رفاقه ليحملوه إلى سطح السفينة، وهؤلاء الرفاق المهرة نادرا ما كانوا يشعرون بتأخره عن جذب الحبل قبل أن تجره المياه ويجرفه التيار من الإعياء دون شعور، وهو تغير يسمى باللهجة العامية "سنَّة"، أي انجرف، ويقال سنَّة الطعام أي تغير وتعفن، وربما هي من الأوصاف التي لم توردها المعاجم.
لم نجد كتابات تعبر عن معاناة الغواصين وأوجاعهم بقدر ما كُتِبَ عن أنواع اللآلئ
ومن أمراض البحر تلك، كانت الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي وانتفاخ الرئة والضغط والنزيف الدموي والصمم من ثقب طبلة الأذن وإفرازاتها، وما تعلو البشرة من بثور وأمراض جلدية وطبقة شبه زجاجية، وأمراض محسوسة... كانت كلها بلا علاج.
وها نحن نتحدث عن الأعماق والمناطق الخفية، لكننا نرى اليوم كل ذلك قد انتهى، وبقي ما تبقى من اللآلئ في المتاحف، ولم نجد كتابات تعبر عن معاناة الغواصين وأوجاعهم بقدر ما كُتِبَ عن أنواع اللآلئ، أو عن السردال الذي يقابله بالمصطلح الغربي الأميرال. والسردال هو الخبير في الأنواء والأمطار والرياح وعمق البحار ومواطن الأصداف والغاصات والاتجاهات الصحيحة، أيّ أنه عالم بحري يحدد موسم الغوص بأكمله، ويحدده في اليوم الذي يساوي الليل والنهار.
لكن ماذا عن الغاصة المجردين من كل شيء سوى موهبتهم وشجاعتهم، وعلى الرغم من وجع الغوص كانوا أيضا مديونين بأكثر مما يستطيعون دفعه إلى صاحب السفينة ومالك اللآلئ، نظرا الى مصاريف التجهيز، من إعداد الطعام واللوازم، وبالتالي سلفيات الغواصة التي لم تنته يوما، وعادة هي ديون كبيرة، فيموت الغواص لتكمل أسرته الدَين، بإرسال ولده للغوص من بعده والعمل سنوات طويلة يسدد دين أبيه، لتأتي المواسم التي لا غوص فيها، فيصبح الدَين سُقما.
على الرغم من كل هذا الوجع، كُتِبَ كثيرا عن العملاء الذين تعاملوا في تجارة اللؤلؤ، وعن فرز اللآلئ وتقويمها، وذكر كل نوع وحصره، وعن التيجان والقلائد الأشهر، وعن فن تجارة اللؤلؤ، وفرق الموازين وأسباب تكوينها والأسعار والأسواق، وعن أدوات صيد اللؤلؤ، وتصوير مشاهد عديدة عن الغواصين وهم يفتحون القواقع بالمفالق والخير القادم، وعن النهمات والإيقاعات البحرية وهو ترويح قليل أمام معاناة البُعد عن أوطانهم وأهلهم واشتياقهم لأطفالهم.
وأصعب ما يمكن المرء أن يسمعه، أن اللآلئَ لها طبيب خاص، يسمى بطبيب اللآلئ، كان يعالج أنواعها وأسماءها بعلمٍ وتبحر، ولم نر طبيبا يغلي الدواء للغواصة، لعلاج اعتلالهم وأسقامهم وأوجاعهم التي كانت بلا دواء.