تسمية الكتاب بـ"فن الشارع" تحيل على البصري وتؤدّي دور الدلالة على طبيعة البحث لناحية النظر إلى فن "الراب" و"التراب" الذي انبثق منه، والذي يعنى أكثر بالتكوين الموسيقي والأداء، على أنه فن يحاول أن يجعل التعبير الكلامي مرئيا ومحسوسا.
التعبير الهجائي
يبث "الراب" موجة معان ومشاعر لا تتفاهم مع سياقات عاطفية وتعبيرات سياسية واجتماعية منظمة ومدروسة، بل تذهب في اتجاه الهجاء والنقد وإعادة النظر في كل شيء كما في معارك "الراب" المعروفة بالـ"ديس" وكذلك في قراءتها للأحوال. وقد تقودنا محاولات البحث عن مرجعيات لها وفق مغازي الكتاب، إلى الشعر العامي الشعبي كما قد تحيل الصراعات بين نجوم الراب على صيغة معارك الهجاء التي كانت سائدة في عصور الشعر العربي الكلاسيكي.
على الرغم من تلك العلاقة الاحتمالية، فإن علاقة كتّاب قصائد "الراب" بالتراث ليست دونية، إذ لا يتورعون عن استخدام مقاطع من أغاني أم كلثوم في أعمالهم كما فعل "الجوكر" الذي استخدم مقطعا من أغنية "أمل حياتي" في تراك "اختار مكانك" الذي خرج بتوزيع حسين الشافعي.
في الكثير من الأعمال وُظّف التراث الغنائي واستخدمت عناوين ثقافية أو حتى معادلات هندسية وعلمية في سياقات سجالية خلقت استجابة جماهيرية متفاعلة ومرحبة بينما أثارت سخط السلطات.
العواطف التي يعبر عنها "الراب" المصري ليست رومانسية بل فظة ومباشرة وتقدم خلطة غير متجانسة من الألم والرغبة والقدرية والاحتجاج بطبقات مختلفة ومتباينة عند كل "رابر". "في تاريخ "أبيوسف" (أحد أبرز الرابرز المصريين) لا توجد أغنية رومانسية مناسبة لتصبح هدية في عيد الحب. الحب في كتابة "أبيوسف" لا يأتي إلا مصحوبا بألم أعراض الانسحاب، محاولات للتخلص من أثر علاقة سامة أو جميلة لكن الاكتئاب لم يتركها تكتمل.
لا يغادر تناول السياسي والاجتماعي منطقة انتفاء الانتماء والتموضع ويبقى خارج ألعاب التأييد والتنديد ويعنى بسبر الأحوال بنغمة يطغى عليها القرف والتأفف والتحدي والاكتئاب والحزن الغاضب. يروي الكتاب قصة حلول "الراب" في موقع الصدارة مع احتفاظه بلا سلطويته، فعلى الرغم من تحول نجوم "الراب" إلى وجوه إعلانية وزيادة الطلب عليهم للمشاركة في مهرجانات عالمية والحضور البارز لهم على منصات البث كافة، لكن ذلك كله لم يجعل هذا النوع من الفن يتصلب ويتجه نحو الرسمية ويصبح جزءا من بنية السلطات وتركيبتها بل بقي اعتراضيا على الدوام. موقع التصدر الذي منح له، يمثل احتجاجا على الفن الرسمي والشائع الذي صار عاجزا عن ملاحقة الحاجات التعبيرية المستجدة، ونوعا من انقلاب الذوق العام عليه وعلى مدارسه.
كتابة الأزمة
ترصد موجات "الراب" المصرية الأولى التي ظهرت بين عامي 2003 -2007 سطوة التعبير الكلامي على الأداء والبحث عن كتابة مغايرة تستجيب لتطلعات جيل يحيا في الأزمات ولا يعرف سواها. في هذه المرحلة اختفت الأغنية الكلاسيكية وظهرت موجات تعبيرية تحاول التقاط روح الأزمات والتعبير عنها بموسيقى مغايرة وكلام جديد وأساليب أداء تنحاز إلى الأصوات غير الغنائية التي تبدو كأنها تحتج وتستغيث أو تحاول الصراخ، لكنها تفعل ذلك بثقة عالية وبنوع من التحدّي.
في تلك الفترة كان "الرابر" يحرص على أن يكون كاتبا في الأساس أو شاعرا. قصة أحمد ناصر المعروف بـ"الجوكر" المولود في 1992 وهو أول وأبرز نجوم "الراب" في مصر، تردّد أصداء هذا المزاج، فقد سبق له أن فاز بمسابقة كتابية وهو حرص دائما على اتباع منهج المدرسة القديمة لناحية الإيقاعات البطيئة وأولوية الكلام الذي تميز خلافا لمنطق الأغنية السائدة بكل مراحلها بتجاوز الهم الشخصي والتركيز على الذات إلى مقاربة الشأن العام وخلق أنماط علاقات جديدة مع الجمهور تدخله في صلب عملية الإنتاج، إذ أن شكل الاستجابة مع المقاطع المنشورة والتعليقات عليها على المواقع التي تنشر فيها، يحدّدان إلى حد كبير توجهات "الرابر" والمواضيع التي سيهتم بها.