زيارة السوداني لواشنطن... التوقيت والملفاتhttps://www.majalla.com/node/314741/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%B2%D9%8A%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D9%84%D9%88%D8%A7%D8%B4%D9%86%D8%B7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%88%D9%82%D9%8A%D8%AA-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%84%D9%81%D8%A7%D8%AA
تأخرت كثيرا زيارة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني إلى البيت الأبيض ولقاؤه الرئيس الأميركي بايدن. وربما هذا التأخير جعل الملفات التي يفترض أن يناقشها الطرفان أكثر تعقيدا. كونه يأتي في ظروف متوترة تشهدها منطقة الشرق الأوسط، وتداخل ملفات العلاقة بين العراق والولايات المتحدة مع تعقيدات الحرب ضد غزة.
وقد يقتصر هذا اللقاء على المراسم البروتوكولية وتبادل الصور والخطابات العامة في القضايا الرئيسة، وربما يحمل رسائل مهمة لما تريده واشنطن من حكومة بغداد في الفترة القادمة من عمر حكومتها. أو احتمالية أن تستفيد منه حكومة السوداني في مناقشة الملفات المعقدة مع الإدارة الأميركية والتي يقف على رأسها إعادة هندسة الشراكة العراقية الأميركية الشاملة، كما تطلق عليها السفارة الأميركية في بغداد هذا التوصيف، بالإضافة إلى مناقشة مشاكل العراق مع وزارة الخزانة الأميركية. وربما تنتهي الزيارة بالبيانات المتناقضة بين ما يقوله البيت الأبيض عن الزيارة والملفات التي تم بحثها، وبيان الحكومة العراقية. ونبقى في حيرة من أمرنا في تحديد من الصواب ومن المخطئ؟
محمد شياع السوداني يحتاج كثيرا إلى هذه الزيارة لتعزيز رصيده السياسي داخل العراق؛ لأنه يشكل حكومة القوى الفاعلة فيها، وقوى الإطار التنسيقي، وتحمل رؤى متناقضة وربما متقاطعة في ما بينها بشأن علاقة العراق مع واشنطن. ولذلك هو يريد أن يستثمر زيارته إلى البيت الأبيض في كسر نمطية التصور عن حكومته بأنها قريبة من المحور المعادي لواشنطن. وأيضا، يحتاجها إعلاميا حتى يقنع الشارع بأن حكومته مقبولة أميركيا، لا سيما أن الكثير من رؤساء الوزراء يعتقدون أن قوة حكومتهم ترتهن بقوة علاقتهم مع واشنطن.
لا يملك السوداني كثيرا من أوراق التفاوض التي يمكن أن تعيد هندسة الشراكة الاستراتيجية مع أميركا
المشكلة في جميع لقاءات الحكومات السابقة أن زياراتها لم تنتج تطورا في العلاقة مع الأميركان، ولا يتم حسم توصيف طبيعتها. إذ تظل الحكومة تتحدث عن علاقات تعاون أمني واقتصادي وسياسي، وفي المقابل تبقى بعض القوى السياسية على موقفها من اعتبار أميركا "الشيطان الأكبر". هذه الازدواجية في مواقف الأطراف السياسية الشيعية التي شكلت حكومة السوداني ربما تجعله في موقف محرج أكثر من كل الحكومات السابقة.
ورغم أن السوداني يدرك أن الأميركان تتعامل مع حكومته باعتبارها أمرا واقعا، وقد استفاد من تجارب رؤساء الحكومات السابقة في الرهان التام على الأميركان. لذلك تمكن، لحد الآن، من إرسال رسائل واضحة إلى الأميركان بأن التماهي تماما مع ما يريده الأميركان في العراق، والتقاطع التام مع إيران. هو المهمة المستحيلة التي لا يمكن لأي رئيس حكومة تنفيذها.
قيود الشراكة الاستراتيجية
لا أحد يعرف حتى الآن ما هي رؤية الحكومة الجديدة في العراق لإدارة ملف العلاقات الخارجية وتحديد التعامل مع طهران وواشنطن، ورؤيتها لإدارة منظومة أمنية هجينة تتجاذبها الخلافات الداخلية وتعد بوابة للتدخلات الخارجية. فحكومة السوداني لم تنجح في إقناع الأميركان والإيرانيين بأن العراق يجب أن يكون نقطة لقاء وليس تقاطع، لأن إقناع دول الخارج يحتاج ترتيب البيت السياسي والأوضاع الأمنية في العراق من الداخل أولا. ولكن كيف يكون ذلك، ونحن نعيش في بلد فيه أكثر من جهة وحزب وزعيم يصادر قرار الدولة الخارجي؟!
لا يملك السوداني الكثير من أوراق التفاوض التي يمكن أن تعيد رسم هندسة الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأميركية، أولى المقيدات توقيت الانتخابات الأميركية، والتي كما يقول الدبلوماسي الأميركي روبرت فورد في خاتمة مقاله الأخير عن لقاء السوداني ببايدن في مجلة "المجلة" بالقول: "الأشهر الستة الأخيرة التي تسبق الانتخابات الأميركية، لن تحمل معها أي مبادرة أميركية جديدة كبرى تخص العراق". ولذلك سيكتفي السوداني بتسويق الدعم الإعلامي لهذه الزيارة فقط، ويحاول فريقه الإعلامي الترويج لها باعتبارها "نصرا استراتيجيا" لسياسة السوداني الخارجية، وزيارة حققت "أهدافا مهمة لصالح العراق.
القيد الثاني، هو مدى ثقة الأميركان بحكومة تقف خلفها أطراف سياسية تجاهر بعدائها للأميركان وترفض حتى إقامة علاقات دولية معها. كما حدث بعد "طوفان الأقصى"، وإعلان "الفصائل المقاومة الإسلامية في العراق" فتحها جبهة حرب ضد مقرات الوجود العسكري الأميركي في العراق، حيث كانت حكومة السوداني هي الشريك الضعيف الذي لا يمكن الوثوق بقدرته على مواجهة ومنع تكرار الهجمات، ولذلك أجبرت الإدارة الأميركية على الانتقال من استراتيجية ردود الفعل إلى استهداف الشخصيات القيادية لتحقيق استراتيجية الردع.
أولويات لقاء السوداني- بايدن لن تكون مناقشة إنهاء مهام التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش"
أما القيد الثالث، وهو يرتبط بتفاصيل القيد الثاني، فهو عقدة إيران في رؤية أميركا للعراق. إذ إن هناك حالة من الترقب تسود منطقة الشرق الأوسط بعد الهجوم الإسرائيلي على مقر القنصلية الإيرانية في دمشق، واغتيال قائد فيلق القدس في سوريا ولبنان العميد رضا زاهدي، ونائبه محمد هادي رحيمي. ولا تزال المنطقة بين ترقب طبول الحرب المباشرة بين إسرائيل وإيران، وعدم يقينية الوصول إلى اتفاق تهدئة يضمن عدم رد إيران على استهداف قنصليتها. وسواء حدث الرد العسكري الإيراني بضرب مواقع عسكرية محددة في إسرائيل أو بقي الموضوع في حدود التوتر والتهديد، تبرز مشكلة عدم إمكانية الرهان على أن "فصائل المقاومة الإسلامية في العراق" لن تكون طرفا في حال الرد الإيراني على هجوم إسرائيل. لا سيما أن تصريحات رئيس الحكومة السوداني ورئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض تعبر عن اعتراف صريح بوجود فصائل مسلحة لا تخضع لسيطرة الحكومة. ومن ثم، لا يمكن للإدارة الأميركية الرهان على قدرة الحكومة بمنع تحويل العراق إلى ساحة لتصفية الحسابات، أو عدم دخوله كطرف في أي صراع دولي أو إقليمي في المنطقة؛ لأن الحوادث المشابهة أثبتت أن تصريحات الحكومة في هكذا أزمات هي مجرد خطابات حماسية يعاد تكرارها في كل مناسبة ولقاء دبلوماسي تجريه الحكومة.
يعرف السوداني جيدا أن الولايات المتحدة الأميركية ليست منظمة إغاثة لمساعدة الدول التي تواجه أزمات، فهي دولة تعتمد مبدأ المصلحة أولا، ولن تقبل أن يكون العراق خاصرتها الرخوة في منطقة الشرق الأوسط. وفي فترة التحشيد والتنافس على الانتخابات الرئاسية لن تسمح الولايات المتحدة بأن يكون العراق محطة إرسال رسائل لإحراج إدارة الرئيس بايدن. ومن ثم، ذهاب السوداني لأميركا من دون رؤية لكيفية رسم شكل العلاقة مع واشنطن، ومن دون خطوات علمية في منع تهديد الفصائل المسلحة للوجود الأميركي في العراق أو المنطقة، سوف لا يكون سوى لقاء بروتوكولي يبدأ بتبادل الصور وأحاديث مختصرة للصحافة.
الشراكة الأمنية
أولويات لقاء السوداني- بايدن لن تكون مناقشة ملف إنهاء مهام التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش"، لأن هذا الملف دخل في مرحلة التفاوض وتم عقد أكثر من جلسة بين العراق وقيادات التحالف العسكرية، وبدأ النقاش في التفاصيل التقنية وأصبح الموضوع بانتظار حسم الترتيبات الزمنية التي ربما تكون طويلة أو قصيرة حسب جدية النوايا في إنهاء مهام التحالف الدولي.
تقييم خطورة تنظيم "داعش" على العراق، قد يكون حاضرا لاستذكاره كنقطة ارتكاز لإعادة توثيق العلاقات بين الولايات المتحدة والعراق في مواجهة هذا التنظيم الإرهابي. فرغم أن السفيرة الأميركية في العراق آلينا رومانيسكي، قد تحدثت عن بقاء تهديد هذا التنظيم، فإن التقرير المشترك الذي صدر في شهر فبراير/شباط، الذي أعدته وزراتا الخارجية والدفاع الأميركيتان واعتمد على تقييم ميداني لمسؤولين أميركان في العراق. إذ اعترف التقرير بنجاح القوات العراقية في السيطرة على تحركات تنظيم "داعش" والحد من عملياته الإرهابية، وأن التنظيم أصبح تحت السيطرة في العراق.
وما تريد أن تعتبره حكومة السوداني وقوى الإطار التنسيقي منجزا لها في إنهاء مهام التحالف الدولي، أو حتى إنهاء الوجود العسكري الأميركي، فإن حجم الوجود العسكري ليس لدى واشنطن بالموضوع الذي يستحق أن تكون طبيعة العلاقات بينها وبين أي بلد متوقف عليه. لأن التاريخ يحدثنا أن الولايات المتحدة لم تحاول الإصرار على البقاء العسكري في أي بلد على الضد من رغباته. وما يجب أن يلحظ أن الولايات المتحدة لا يمكن لها إبقاء وجودها في أي بلد على الضد من إرادة حكومته، حيث لا معنى للاحتفاظ بقواعد في أراض معادية، إذ يتعين عليها تكريس جزء كبير من الموارد للدفاع عن الذات. وعليه، فإن حكومة بغداد هي المعنية بحسابات الربح والخسارة مع إنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق الذي يجب أن يكون غير مقتصر على التقديرات الأمنية، وإنما ضرورة النظر إلى الموضوع بحسابات المصلحة السياسية.
الملف الأكثر تعقيدا
لم تنجح حكومة السوداني في أي خطوة من خطواتها لمعالجة مشكلة ارتفاع سعر صرف الدولار عن السعر الرسمي الذي حدده البنك المركزي العراقي، وطوال أكثر من سنة ونصف السنة لم تثمر قراراتها في معالجة موضوع تهريب الدولار إلى خارج العراق. وفشل محافظ البنك المركزي العراقي في إيجاد حلول لكل تلك المشكلة، ورغم ذلك هناك إصرار يثير الريبة من رئيس الوزراء بشأن محافظ البنك المركزي رغم عدم وجود أي مؤشر على تجاوزه أي أزمة من أزمات الدولار.
وقد بلغ الحساب في أوائل عام 2024 أكثر من 100 مليار دولار. ويمنح هذا الحساب المودع في نيويورك الحكومة الأميركية نفوذا هائلا على العراق. هذه الأموال هي ودائع العراق لدى البنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك. والتي تأتي من عائدات صادرات العراق من النفط والتي تبلغ تقريبا نحو 3.3 مليون برميل يوميا. وتخضع هذه الأموال إلى أوامر وزارة الخزانة، التي بدورها تحدد ما يذهب إلى العراق وما يتم تقييده، اعتمادا على مدى امتثال العراق للعقوبات الأميركية التي تفرضها على دول محددة كإيران ولبنان وسوريا واليمن وحتى روسيا.
لم تنجح حكومة السوداني في أي خطوة من خطواتها لمعالجة مشكلة ارتفاع سعر صرف الدولار
البنك المركزي، حتى الآن، لم تنجح جميع إجراءاته وقراراته في الاستجابة لما تريده واشنطن من إيقاف تهريب الدولار. وفي عام 2023 منعت 14 بنكا عراقيا من التعامل بالدولار، ومنذ بداية العام الحالي توسعت القائمة لتشمل أكثر من بنك في قائمة عقوبات الخزانة الأميركية، رغم أن رئيس الوزراء تواصل مع بريان نيلسون مساعدة وزيرة الخزانة الأميركية في يناير/كانون الثاني الماضي.
ومنذ اليوم الأول لتسلم حكومة السوداني مهامها، تم إبلاغه بمنافذ تهريب الدولار، ولكنه حتى الآن عاجز عن إيجاد حلول واقعية لهذه المشكلة. لذلك كل ما يتم تسويقه بشأن النقاش مع الخزانة الأميركية لمعالجة هذه المشكلة والتقليل من القيود أو رفع العقوبات عن المصارف الأهلية المشمولة بقائمة عقوبات الخزانة الأميركية هو مجرد ثرثرة لا تعتمد على خطة أو استراتيجية حكومية لإصلاح القطاع المصرفي في العراق، ما دامت تصريحات الحكومة والبنك المركزي غير مقترنة بخطوات عملية تعالج أساس مشكلة التهريب والمنافذ والمصارف والشخصيات المتورطة في هذا الموضوع.
ختاما، لا يمكن لدولة كبرى مثل الولايات المتحدة القبول بالشراكة الاستراتيجية مع الحكومات الضعيفة حتى وإن كانت مصالحها تفرض تلك الشراكة، إذ ربما تتعامل بقبول الأمر الواقع وعدم الانسحاب الكلي من العراق. ومشكلة القوى السياسية في العراق، وتحديدا الشيعية منها، أنها تريد للعلاقات مع الأميركان أن تكون وفق مزاجها ورؤيتها، فهي لا تريد التقاطع التام مع أميركا كدولة صاحبة النفوذ الأقوى في العالم والمنطقة، ولا تريد أن تبني علاقتها معها على أساس المصالح بين البلدين. وإنما تريد أن تسميها "الشيطان الأكبر" ولكن لا تريد المغامرة بقطع علاقتها معها.
لذلك ستنعكس هذه الازدواجية في الرؤية والمواقف على كل الحكومات، فهي تريد أن تراعي مصلحة الدولة في العلاقة مع الأميركان، وفي الوقت ذاته لا تريد أن تجاهر بعدم واقعية مواقف القوى السياسية التي تريد القطيعة مع واشنطن. ومن ثم، ستعبر جميع مواقف الحكومة عن ضعفها في التعبير عن قرارها السيادي في السياسة الخارجية.