حرصت القوى الدولية الكبرى منذ أواخر أربعينات القرن الماضي على الابتعاد عما يؤدي إلى نشوب حرب عالمية جديدة أو ثالثة. ظلت أهوال حربي (1914-1918)، و(1939-1945) ماثلة في أذهان أجيال متوالية من قادة هذه الدول، وغيرها. وكان اللجوء إلى الحرب بالوكالة هو سبيلها لإدارة الصراعات، سواء في مرحلة الثنائية القطبية (الأميركية-السوفياتية) أو بعدها.
غير أن الوضع بدأ يختلف في السنوات الأخيرة، وخاصة منذ 2021، ليس لأن الحرص على تجنب حرب ثالثة قل، ولكن نتيجة تغيرات تتفاعل في البيئة الدولية التي يشوبها شيء من الفوضى، أو ربما الكثير منها. ويبدو أن بعض الصراعات بالوكالة وصلت إلى مستويات قد تجعل من الصعب الاستمرار في إدارتها بالوكالة ما لم يتوافر قدر أكبر من الرُشد السياسي والشعور بالمسؤولية في مراكز القرار بالدول الكبرى. ولعل هذا يفسر الطابع المختلط لحرب أوكرانيا. أحد طرفيها قوة دولية كبرى، فيما يعتمد الثاني بشكل شبه كامل على دول حلف "الناتو" الحاضرة في الحرب عبر الدعم العسكري والدبلوماسي والاقتصادي. ولهذا يُثار سؤال منطقي عن إمكان تحولها إلى حرب بالأصالة، أي بين روسيا و"الناتو" حال خروج التوتر المتصاعد عن السيطرة وازدياد الفوضى الدولية التي بدأت ملامحها في الظهور.
ولكن حرب أوكرانيا ليست وحدها التي يمكن أن تتحول إلى حرب أوسع. هذا السيناريو الأسوأ ليس مُستبعدا في حرب غزة أيضا. ويزداد خطره كلما طال أمدها بلا أفق لما بعدها.
دنيبرو أم البلطيق؟
عندما نحاول تصور التطورات النوعية التي يمكن أن يؤدي أحدها لتوسع حرب أوكرانيا، نجد أن في مقدمتها حسم معركة نهر دنيبرو لمصلحة روسيا، أو تصاعد التوتر بشدة في منطقة بحر البلطيق.
حرب أوكرانيا ليست وحدها التي يمكن أن تتحول إلى حرب أوسع. هذا السيناريو الأسوأ ليس مُستبعدا في حرب غزة أيضا. ويزداد خطره كلما طال أمدها بلا أفق
كان نهر دنيبرو، ولا يزال، في قلب الحرب منذ بدايتها. ورغم وصول القوات الروسية إليه، وسيطرتها على ضفته الشرقية أو الجزء الأكبر منها، فإنها لم تستطع عبوره. ردتها قوات أوكرانيا مرات، وأبعدتها بضعة كيلومترات مرتين. ولكن القوات الروسية واصلت محاولاتها لعبوره والسيطرة على ضفته الأخرى كلما سنحت فرصة، وما زالت تحاول من وقت إلى آخر. وإن تصورنا نجاحها في استثمار تأخر الدعم العسكري والمالي الأميركي المحجوز في مجلس النواب الآن، وعدم كفاية المساعدات الأوروبية خاصة الذخائر التي يستخدمها الطرفان بكثافة هائلة، وتمكنت من عبور النهر، فقد تكون هذه نقطة تحول.
ستُقسم أوكرانيا في هذه الحالة إلى قسمين، لأن النهر يمتد عبر أراضيها من الشرق إلى الغرب بطول 2290 كيلومترا. وستستطيع القوات الروسية إقامة اتصال بري مباشر مع منطقة ترانسينستريا الانفصالية الموالية لموسكو في مولدوفا. وعندئذ قد يجد "الناتو" أن عليه فعل شيء رغم أن مولدوفا ليست عضوا فيه لأنها ستصبح مهددة أكثر من أي وقت مضى. كما أن قدرة القوات الروسية في هذه الحالة على التحرك بسرعة كبيرة بين شرق أوكرانيا وغربها لا بد أن تزيد المخاوف من قرب حسم الحرب لمصلحتها.
ومن شأن مثل هذا التطور أن يُعزز مخاوف "الناتو" من عدم اكتفاء روسيا بأوكرانيا. ويُعيد هذا السيناريو إلى الأذهان معركة دنيبرو الرهيبة بين القوات السوفياتية والألمانية عام 1943. كانت معركة عبور هذا النهر، التي انتهت بفوز القوات السوفياتية، من أهم المعارك التي أسهمت في هزيمة ألمانيا.
أما التطور النوعي الثاني فهو تصاعد التوتر بين روسيا وإحدى دول بحر البلطيق الثلاث (لاتفيا وليتوانيا وإستونيا) وبلوغه مستوى يُخرجه من نطاق السيطرة، في ظل التوتر المتزايد في هذه المنطقة، وفي أوروبا عموما. وفي هذه الحالة قد تُحرك روسيا أسطولها الموجود في بحر البلطيق، وقوات جيشها السادس أو قسم مُعتبر منها، كنوع من الردع. وسيتوقف الأمر حينها على المدى الذي سيبلغه رد "الناتو" الذي قد يُفعل المادة الخامسة من ميثاقه للدفاع عن أعضائه الثلاثة.
وكثيرًا ما بدأت حروب بسلسلة من الأفعال وردود الأفعال المتصاعدة. وهذا بالتالي سيناريو مُحتمل، أو قل إنه غير مستبعد بمقدار ما يتصاعد التوتر ويفلت من السيطرة، وخاصةً في حالة عدم قدرة الدول الثلاث على ضبط النفس واندفاعها إلى مواجهة تحت ضغط مخاوف تاريخية تنتابها بشأن نوايا روسيا تجاهها منذ أن استقلت بفعل تفكك الاتحاد السوفياتي السابق. والأكيد أن هذه المخاوف آخذة في الازدياد منذ سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم عام 2014 ثم شن حرب أوكرانيا 2022.
ستُقسم أوكرانيا إلى قسمين، لأن نهر دنيبرو يمتد عبر أراضيها من الشرق إلى الغرب بطول 2290 كيلومترا
وفي هذه الحالة قد يكون بحر البلطيق وأراضي الدول الثلاث الصغيرة مسرحا لمواجهة قابلة للتوسع، لأن سيطرة روسيا عليها تعني نقل المعركة باتجاه الساحل البولندي. وإذ يبدو هذا السيناريو الأسوأ، سواء انطلاقا من دنيبرو أو البلطيق، غير مستبعد فلا عاصم منه إلا الردع النووي المتبادل. ولكن فاعلية هذا الردع ليست مطلقة، لأنه لم يعد يشمل استخدام أسلحة نووية تكتيكية في منطقة أو مناطق جد صغيرة، وهو ما هدد به مسؤولون روس في المرحلة الأولى من الحرب حين انتزعت قوات أوكرانيا المبادرة وقبل أن تفقدها مجددا. ولكن ما يبدأ تكتيكيا قد يتحول استراتيجيا، ومن ثم يفقد الردع النووي فاعليته.
بين إيران... ولبنان؟
لا يمكن الحديث عن ردع نووي يعصم من توسع حرب غزة، بخلاف حالة أوكرانيا. حرب غزة ليست ضمن أولويات روسيا والصين. انشغال روسيا بحرب أوكرانيا يفرض عليها الاكتفاء بالتعبير عن موقفها دون زيادة. والصين تعطي أولوية لإكمال مقومات قوتها وتُركز في مواجهة النفوذ الأميركي في شرق آسيا. غير أن غياب الرادع النووي لا يجعل احتمال توسع حرب غزة أكبر، مقارنة بحرب أوكرانيا، وخاصةً في ضوء حرص إيران على ضبط ردود فعلها وتصرفات حلفائها أو أذرعها في حدود ما تعتبره "إسنادا للمقاومة" في غزة. ولهذا تُخفي شعورها بالألم جراء استهداف إسرائيل عددا متزايدا من قادة "الحرس الثوري". وهي تحافظ على ضبط النفس الاضطراري هذا حتى الآن رغم أنه قد يؤثر على صورتها التي تريد أن تُظهر فيها تسوية منيعة. غير أن ضبط النفس الإيراني قد لا يكون مانعا كافيا دون توسع حرب غزة، لأنه قد يُشجع حكومة نتنياهو على المزيد ويُغري الوزراء المتشددين فيها بتصعيد ضغوطهم لشن حرب على لبنان.
ويُطرح هنا سؤال يصعب تجنبه. فإلى أي مدى يمكن أن تتحمل إيران الضربات الإسرائيلية، وإذا كانت حكومتها مُصرة على تفويت لحظة تبدو فيها حكومة نتنياهو "متمردة" على المجتمع الدولي، بل على أقرب حلفاء إسرائيل، فإلى متى يمكن أن يصبر "الحرس الثوري" على اصطياد قادة بارزين فيه؟
وإذا افترضنا أن حكومة طهران وحرسها الثوري سيتحملان لتفويت الفرصة على حكومة نتنياهو، فهل يُفوت هو هذه الفرصة وخاصة في ضوء أنه شخصيا لا يكف منذ 2010 عن التحريض ضد طهران قلقا من وصول برنامجها النووي إلى نقطة اللاعودة؟ وهل يمكن توقع ما فهمه من حديث مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي في 31 مارس/آذار عن المدى الذي بلغه تطور البرنامج الإيراني، وتحذيره مما سماه (تكرار السيناريو العراقي إثر تحول اتفاق 2015 إلى قشرة فارغة).
ومع ذلك، فإن افترضنا أن الكابح الأميركي يمكن أن يعمل في هذه الحالة، بعد أن أُعيد رسم حدوده كما يتضح في الخلاف مع حكومة إسرائيل بشأن صفقة التبادل واجتياح رفح، فهل يسهل استبعاد تطور المناوشات بين إسرائيل و"حزب الله" إلى حرب كاملة؟
وإن حدث ذلك، وتبين مثلا أن إسرائيل تستطيع إلحاق خسائر فادحة بقدرات "حزب الله" وتحمل أذى أقل يلحق بها، فهل تواصل إيران ضبط النفس وهي مُهددة بفقد دور أهم حلفائها أو أذرعها حين تضعف قوته، وبعد تحييد ما يبدو أنه قسم كبير من قدرات جماعة الحوثي؟
هذه وغيرها أسئلة يقود تأملها إلى ملاحظة أن شبح توسع حرب غزة يُحلّق في سماء العالم وإن لم يكن قريبا بعد من أرضه.
الفوضى الدولية في عصرين
لا يعود خطر السيناريو الأسوأ فقط إلى وجود حربين متزامنين يمكن أن تتوسعا، ويُخشى أن يحدث ترابط استراتيجي في لحظة ما بينهما إذا طال أمدهما مثلما حدث بين عدد من الصراعات في أوروبا وآسيا الباسيفيك قبل الحرب العالمية الثانية. فقد ترابطت تلك الصراعات في أجواء فوضى دولية عمت العالم وقتها، وحذر الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت في أغسطس/آب 1937 من خطرها، وقال إن وباء الفوضى الدولية المنتشر يُنذر بكارثة.
وعندما نتأمل الوضع الدولي الراهن نجد شيئا من ذلك، إذ تزداد الفوضى في النظام العالمي وتبدو المؤسسات الدولية عاجزة عن أداء أدوارها. ولا يجوز القول إن هذا الوضع يشبه ما كان قبل الحرب الثانية. الاختلاف كبير بين زمنين وعصرين. ولكن الفوضى تبقى نذير شر دوما أينما وُجدت وفي أي عصر أو أوان. وإن لم تدرك القوى الدولية الكبرى أخطار هذا الشر وتسعى إلى احتوائها، فلا نستطيع استبعاد أي سيناريو سيئ بغض النظر عن أوجه الاختلاف والتشابه بين عشرينات القرن الجاري وثلاثينات القرن الماضي.