ميلانو: منذ اللحظة الأولى، ودون أي التباس، تثير انتباهك الأقنعة الأفريقية الموزعة في معظم قاعات المعرض، مما يُذكّر بأن ما نشهده هنا كان يُستهجن سابقا باعتباره بدائيا وكان يُرفض بشدّة، حتى أنه تعرض لخطر الزوال التام. ويبدو أن أولى المحاولات لولوج هذا العالم، عالم الفن الأفريقي، كانت شائكة على الفنان، كما يظهر ذلك جليا من رسومه التمهيدية والإسكتشات. فليس من السهولة العودة إلى الطفولة، أو إلى تلك البدائية النقية التي عرفت كيف تبتكر الرموز والمجازات لتعبر عن آلهة أو أجداد، أو عن الحياة في تلك البيئة التي ما لبثت أن أُغرِقَتْ في بحر من الدماء على يد المستكشفين وجحافل الغزاة.
تتفق آراء النقاد بصفة عامة، على أن بابلو بيكاسو هو واحد من أعظم فناني القرن العشرين، وأحد مؤسسي الحركة التكعيبية، ومبتكر تقنيات الكولاج. يُعتبر كذلك من بين كبار المندّدين بأهوال الحروب والديكتاتوريات والعنف، كما يظهر ذلك في لوحته الجدارية الشهيرة، "غيرنيكا"، وقد سعى بشغف خلال تجاربه المستمرة على مر السنين، إلى فهم ذاته والإنسان والعالم من حوله. وفي هذا الخصوص، اعترف بعد فترة طويلة، قائلا: "في الثانية عشرة من عمري كنت أرسم مثل رافائيل. لكن الأمر استغرق مني عمرا كاملا لأتعلم الرسم كطفل". من المعروف عن بيكاسو، أنه كان متمردا لا يهدأ ولا يستكين، ويرفض رفضا قاطعا أن يتحكم أحد في إبداعه واختياراته. لذلك لم تبدأ رحلته الفنية الحقيقية، إلا بعدما نأى فيها بنفسه تماما عن والده، الذي وافته المنية عن عمر يناهز 75 عاما، في حين كان بابلو يبلغ من العمر 32 عاما، وقد أصبح رساما معروفا ومشهورا.
اليوم، في سياق الاحتفالات بالذكرى الخمسين لوفاته، ارتأى متحف الفن في ميلانو، "مودك"، تقديم بيكاسو، بطابع 'إسباني" قوي ومتعمّد في هوية المشروع، لكنه عالمي في جوهر الرؤية الفنية التي يقدّمها بيكاسو إلى الجمهور. صيغة غير مسبوقة، أو لعلها مسبوقة إنما بسيناريو يضع على المحك البدايات والنهايات، وربما يخفّف بعض الشيء تلك الهالة الأسطورية التي تحتفظ بها الذاكرة العامة على امتداد كوكب الأرض. في السياق نفسه، ثمة رسالة لا بد من التوقف عندها: نحن لسنا الحضارة الأولى أو الأخيرة، بل نحن خلاصة لحضارات سابقة.
الجذور الأفريقية في أعمال بيكاسو
تظهر بصمة الفن الأفريقي بانتظام في مسيرة بيكاسو، إذ يمكن للمشاهد أن يلاحظ هذا الأثر بسهولة خلال الفترة التي اتسمت أعماله فيها بالطابع "البدائي" بين عامي 1907 و1908، وفي لوحات التلصيق (الكولاج) التي أُنجزت بين 1912 و1914. كما استمر على المنوال نفسه في عام 1920، على الرغم من تذبذب فنه خلال الحرب العالمية الأولى والأعوام التالية، حيث تحول من التصورات الكلاسيكية إلى التجريبية ذات الطابع التكعيبي والزخرفة المتطورة أكثر مما كان عليه في فترات سابقة.