صار من الصعب علينا أن نفرّق بين علم الآثار الزائف والعلمي أو بين التاريخ الشعبي والمحقق بالبراهين. فلقد انتشرت الكتابات في هذه المجالات إلى حد لم نعد نستطيع متابعة هذه التصنيفات التي تصدر عن مؤسسات علمية وباحثين، خاصة أن الذين ينتمون إلى ما يمكن أن نسميه بالتاريخ الوهمي، يؤكدون بدورهم أنهم يتبعون مناهج علمية ويبحثون في نقوش ولُقى أثرية.
هذه الاتجاهات الشعبوية والزائفة في كتابة التاريخ وقراءة الآثار، عُرفت منذ سنوات طويلة، ومنها جاءت المرويات التي تتكئ على الأساطير والحكايات الشعبية والخرافات وتقدّم الى القارئ والمشاهد والمستمع كأنّها أحداث محققة لا تقبل الشك. وفي محاولة من الاتجاهات العلمية صُنّفت هذه السرديات من خلال مصادرها النصية أو الثقافية، فقرأنا كتبا وأبحاثا عن جغرافيا التوراة والأناجيل وأمكنة القرآن، وهناك من درس "جغرافيا الوهم"، حسب عنوان كتاب للباحث حسني زينة الذي تناول فيه أساطير وحكايات وقصص "إرم ذلت العماد" و"جبل قاف" و"حائط العجوز" و"جزيرة النساء" و"مدينة النحاس".
وكان كمال الصليبي قد نشر كتابا له بعنوان "التوراة جاءت من جزيرة العرب" (1984) أثار الكثير من الجدال، وأذكر أن حمد الجاسر وعبد العزيز المقالح ومحمد جابر الأنصاري ردّوا عليه بمقالات في صحيفة "الشرق الأوسط". وإذ صار الموضوع محل كتابات أيضا لزياد منى وفاضل الربيعي وخزعل الماجدي وأحمد داوود، وُجدت وجهة مختلفة لا تقبل هذا الطرح بدأها فراس سواح وفرج الله صالح ديب. وقد اعتبر الصليبي في كتابه هذا أن منطقة جنوب شبه الجزيرة العربية هي الجغرافيا المحققة للأحداث والأسماء الواردة في التوراة. وهو بذلك قد فتح مجالات للبحث والتشكيك ليس في تاريخ هذه المنطقة فقط وإنما أيضا في تاريخ العراق وفلسطين وسوريا ومصر. فجاءت كتب تشكك في حقيقة وجهة حروب نبوخذ نصر وتنكر وجود شعب كنعان أو وجود ملوك يحملون اسم أو صفة "فرعون" وأن اليمنيين ليسوا عربا وهكذا.
هذه الاتجاهات الشعبوية والزائفة في كتابة التاريخ وقراءة الآثار، عُرفت منذ سنوات طويلة، ومنها جاءت المرويات التي تتكئ على الأساطير والحكايات الشعبية والخرافات
وأكثر من أثار جدالا في هذا المنحى، هو الكاتب العراقي فاضل الربيعي الذي انتقل من ميدان الصحافة والأدب إلى عالم التاريخ والآثار، متبعا في منهجه ما كان قد بدأه كمال الصليبي، فهو إذ وجد أسماء لقرى أو مناطق يمنية لها اشتقاقات لغوية عبرية، استنتج أن جغرافيا التوراة موجودة في اليمن بأحداثها وتسمياتها، متناسيا أن الديانة اليهودية كانت في فترة من تاريخ اليمن قبل الإسلام بمثابة الديانة الرسمية للدولة، إذا ما جاز استخدام هذا الوصف المعاصر، فهناك بعض الملوك من كان يدين باليهودية مثل الملكين أسعد الكامل وذو نواس. ولهذا من الممكن وجود أمكنة بأسماء عبرية أو مشتقة منها، باعتبار أن من سكنها كانوا من اليهود، أو ما يشبه ذلك.
المشكلة ليست في هذا الطرح الذي قد يكون افتراضيا، كما اقترح الصليبي في بحثه، وإنما في توجه بعض هؤلاء المؤرخين المتحذلقين أو المتلاعبين بالتاريخ الذين يصرّون على أن استنتاجاتهم لا شك فيها أو أنها تتطابق 100%مع الوقائع التاريخية.
وقد يكون هناك تقاطع بين ما هو لغوي وتاريخي مادي، ولكن هذا يحتاج إلى البراهين وليس إلى الرجم في الغيب. فالبعض لا يقبل الجدال حول التوصيفات الجغرافية في الكتب الدينية ويعتبرها جغرافية محققة وموجودة دون مراعاة أن هذه الأسماء أو القصص قد تكون وردت في هذه الكتب لدواعي الوعظ أو المثل.
مع هذا، نجد الكثيرين يستمتعون بهذا المنحى من التاريخ الممزوج بالأساطير والحكايات والقصص الشعبية أو ذلك المنحاز أيديولوجيا وحزبيا، دون الاهتمام بمدى صدقيته، لكن هذا الاستمتاع قد تكون له عواقب أخرى في مستوياته السياسية والاجتماعية، فقد يترتب عليه تحديد هويّة بلد، كحال فلسطين، أو ينتج تواطوءا عنصريا كالموقف من المرأة أو السود أو قومية ما. وقد استخدم التاريخ كثيرا في الصراعات السياسية، وصار من المعتاد أن يظهر إنكار بعض المعلومات التاريخية أو الأثرية كجزء من "المهاترات" الإعلامية بين البلدان، كما حدث مع الصحافي اليمني عبدالسلام الشعيبي الذي خرج عام 1995 بنظرية ينفي فيها وجود معجزة في بناء الأهرامات فقال إنها لم تنحت من الصخور كما يعتقد علماء الآثار وإنما بنيت عبر قوالب إسمنتية نادرة.
المشكلة في توجه بعض هؤلاء المؤرخين المتحذلقين أو المتلاعبين بالتاريخ الذين يصرّون على أن استنتاجاتهم تتطابق مع الوقائع التاريخية
وعلى الرغم من وصف الرئيس علي عبدالله صالح لهذا الصحافي (الذي كان يعمل في صحيفة الحزب الحاكم وفي التوجيه المعنوي للقوات المسلحة) بالمعتوه، في مؤتمر صحافي في القاهرة بعد أشهر من إعلان الشعيبي نظريته، إلا أن البعض اعتبر ما صدر من الشعيبي سببه تشجيع السلطة اليمنية له على إثر سوء العلاقات بين الرئيسين صالح وحسني مبارك وقتذاك. فقد جاء هذا الادعاء بعد مناوشة خطابية بين صالح ومبارك، إذ دعا الأول إلى فتح الحدود أمام الجنود العرب لمشاركة الفلسطينيين القتال ضد إسرائيل في غزة من خلال قوله "لو أعطيتموني قطعة أرض على خط المواجهة لرأيتم ماذا كنت سأفعل"، فردّ مبارك في مؤتمر صحافي بقوله إنه لن يمنعه "تعال ياخويا، حاديك حتة أرض وهات الجيش بتاعك وحارب، وورينا شطارتك"، معتبرا أن مثل هذا الكلام "للاستهلاك المحلي ومن أجل تصفيق الشعوب".
وكانت نهاية الشعيبي، وهو لم يدرس التاريخ أو الآثار ولم يزر الأهرامات، أن جنّ وقيل إنه قتل بعدها في أحد الشوارع أثناء المواجهات المسلحة في صنعاء. وهو حال يذكِّر بالحسن ابن الهيثم الذي أنجز دراسة عن فيضانات النيل في مصر وكيفية مواجهتها من خلال عمل سد، إلا أنه حين ذهب إلى الموقع لم يجد أي تطابق بين نظريته والواقع فأدعى الجنون هربا من عقاب الخليفة.