منذ أواسط ستينات القرن المنصرم، على الأقل، لم تتفق القوى الإقليمية الأساسية في منطقتنا على نزعة سياسية مثل إجماعها على "إقصاء النفوذ الأميركي عن المنطقة".
سار ذلك بين أنظمة ودول وقوى سياسية إقليمية متصارعة فيما بينها أيديولوجيا وسياسيا وحتى عسكريا، لكنها توافقت دوما على نفورها من النفوذ والدور الأميركيين. وصحّ ذلك أيضا حتى على دول تستضيف وتعتمد على القوة والدعم العسكري الأميركي استراتيجيا، لكنها عملت وتسعى جاهدة للتملص من هذا النفوذ الأميركي ومتطلباته، مثل إسرائيل في أحيان كثيرة وتركيا على الدوام.
شمل ذلك أيضا جهات مناهضة للنفوذ الأميركي أيديولوجيا وسياسيا، وأخرى تستخدم تلك المناهضة كشماعة ورافعة سياسية لإحراز الشرعية ومخادعة مجتمعاتها. الغريب أن مناهضة الولايات المتحدة ونفوذها كانت حتى على رأس أجندة بعض دول منطقتنا، التي تحصل على دعم ومساعدات أميركية وفيرة طوال سنوات.
ولأسباب سياسية تاريخية مركبة ومتراكمة، كان الأكراد استثناء مطولا من تلك القاعدة. ففي مختلف التجارب الكيانية الكردية، في ذوات القادة والقوى السياسية الكردية، ومثلها المجتمعات الكردية بشتى طبقاتها إلى حد بعيد، كان ثمة إحساس بضرورة وأهمية النفوذ الأميركي في المنطقة، كفاعل قادر على منحهم طمأنينة ما، وقدرة على مزاحمة الدول وأنظمتها الحاكمة، وإمكانية ما لإخراج الأكراد من المعادلة الصفرية مع حكامهم، من دول وأنظمة وحتى مجتمعات، وأداة لتحويل القضية الكردية ورفعها من إطارها ومناخها الإقليمي "الخانق"، لتكون قضية وملفا على طاولة الأمم.
النزوع الكردي تجاه الولايات المتحدة لم يكن مجرد خيار سياسي أو أيديولوجي
لم يكن النزوع الكردي تجاه الولايات المتحدة مجرد خيار سياسي أو أيديولوجي، فحتى المجتمعات الكردية في مختلف هذه الدول كان حسها العام متمايزا عن نظيرتها العربية والتركية والفارسية. لأن المجتمعات الكردية لم تكن قائمة على ذاكرة جمعية إمبراطورية كغيرها، وتاليا لم تملك ذلك الحس الدفين بالندية والنفور من القوى الأجنبية. وقد تضاعف الأمر خلال المرحلة الاستعمارية، ففي الوقت الذي صارت فيه مختلف هذه الجماعات الأهلية تراكم مواجهة سياسية وثقافية وأيديولوجية تجاه الغرب ودوله، أخذت الولايات المتحدة مكانة هذا الغرب وصورته في المخيلة الجمعية. وعلى الرغم من افتقادها لأي ماضٍ استعماري، فإن الكُرد لم يملكوا تلك الذاكرة قط، وتاليا ما أسسوا لمناهضة جوهرية ودائمة لهذا الغرب ومثاله الأحدث، الولايات المتحدة.
تأسس هذا الهيام الكردي بالولايات المتحدة ودورها منذ زمن سحيق في التاريخ المعاصر للمنطقة، سابق بكثير لما اكتشفته باقي دول وأنظمة المنطقة لاحقا ("99 في المئة من الأوراق مع أميركا"، كما قال الرئيس السادات يوما). فالنُخب التأسيسية للوعي القومي الكردي، اكتشفت خلال السنوات الخمس الصعبة التي تلت نهاية الحرب العالمية الأولى، كيف أن القوتين الاستعماريتين التقليديتين، فرنسا وبريطانيا، تملكان ترسانة ضخمة من الروابط والعلاقات والمصالح مع ورثة الإمبراطوريات القديمة في المنطقة، تركيا وإيران، وتاليا لن تفسحا المجال أمام حضور سياسي كردي يزاحم مصالح وتطلعات الدولتين الاستعماريتين.
في مرحلة لاحقة، اكتشف الأكراد شيئا شبيها بذلك ينطبق على الاتحاد السوفياتي/روسيا، منذ أن تسبب في انهيار "جمهورية كردستان في مهاباد"، دُرة تاج التجارب السياسية الكردية، في أواسط الأربعينات من القرن المنصرم.
بين المرحلتين وبعدهما، كان الأكراد يكتشفون كيف أن الولايات المتحدة وحدها تملك نوازع وتجارب تغيير جوهرية عبر العالم، وكيف أنها على الرغم من كل جبروتها خاضعة لبعض المؤسسات والتأثيرات الناعمة، فالمظاهرات داخلها قد توقف حربا، وفضيحة تجسس صغيرة قد تسقط رئيسا، ونزعة مثالية تبشيرية داخل نُخب حكمها قد تقودها لتغيير نظام شمولي، وعدد من التقارير المنشورة في وسائل الإعلام قد تُجبر الإدارة الأميركية على حماية شعب لعقود.
من هنا تحديدا، تأسس وتراكم التعلق الكُردي بالولايات المتحدة، كجهة وحيدة قادرة على فعل ما لا يستطيع غيرها فعله، وقوة ترى نفسها أكبر من أي التزام سياسي قد يكون مطلقا مع الكيانات الإمبراطورية والدول الكبرى في المنطقة، ومع الأمرين استراتيجيتها التبشيرية، التي تنهض بين فترة وأخرى، وتكون لغير صدفة لصالح الكُرد، وكل الجماعات المغبونة، لأسباب موضوعية.
العجيب أن التمسك الكردي بالولايات المتحدة لم يتهرأ، رغم تجارب التخلي المريرة التي عاشها الكرد معها لصالح نظام البعث العراقي عام 1975
وبغض النظر عن بعض التفاصيل الهامشية، الخطابية تحديدا، فإن الوله الكردي بالولايات المتحدة سائد على كل التيارات السياسية الكردية، من أكثرها قومية وتقليدية مثل "الحزب الديمقراطي الكردستاني" العراقي، إلى أقصاها يسارية ورومانسية مثل "حزب العمال الكردستاني"، مرورا بأحزاب وسطية وذات علاقة تداخلية مع إيران مثل "الاتحاد الوطني الكردستاني"، وربما يصح الأمر حتى بالنسبة لقوى الإسلام السياسي الكردية نفسها. تشعر القوى هذه بالوله والإعجاب بالولايات المتحدة وإن كانت لا تعترف به، وهي متأكدة في ذواتها من أن الحل في المحصلة بيدها، وفقط بيدها.
العجائبي في هذه الصفحة من سيرة التاريخ، أن التمسك الكردي بالولايات المتحدة لم يتهرأ، على الرغم من تجارب التخلي المريرة التي عاشها الكرد معها لصالح نظام البعث في العراق عام 1975، أو المساهمة في اعتقال زعيم "حزب العمال الكردستاني" عام 1999، ومثلها تجارب أخرى كثيرة. لكن الكُرد بقوا يقولون في خبيئة أنفسهم: "صحيح فعلوا بنا كل ذلك، لكنهم وحدهم فعلوا لنا شيئا ما، أيا كان هذا الشيء". والتراجيدي في الصفحة نفسها، هو تمسك الولايات المتحدة بدعم واضح لكل الدول والأنظمة المناهضة لها، وعزوفها شبه التام عن خلق دعم مستدام وواضح لعشاقها الوحيدين، الأكراد.