اللوم الدولي الموجه إلى إسرائيل لغياب أي تصور قابل للتطبيق في غزة بعد انتهاء الحرب هناك، أو ما بات يعرف بخطة "اليوم التالي"، تتفاقم خطورته بافتقار الفلسطينيين، في السلطة وفي "حماس" إلى تصور مقابل.
ما يُفهم من الأفكار المتناثرة التي تصدر عن الحكومة الإسرائيلية والمحيطين بها، توحي بأنها ترغب في الاحتفاظ بوجود عسكري- أمني في قطاع غزة من دون تحمل المسؤولية عن حاجات السكان المدنيين ولا عن أمنهم وحياتهم اليومية. بل إن ما تريده إسرائيل من القطاع هو ضمان بأن لا يتكرر هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول فيما يهتم المجتمع الدولي والبلدان العربية بتوفير كل ما تبقى من ضرورات البقاء لمليونين ونصف المليون من الفلسطينيين الذين بات أكثرهم بلا مأوى وبلا مستشفيات أو مدارس أو وسائل عيش مهما كانت بدائية.
تتلاقى النظرة هذه مع ما تفكر به "حماس" في شأن مستقبل القطاع. ذلك أن الحركة كثيرة الكلام عن تفجيرها عبوات وقنص جنود إسرائيليين، شحيحة جدا في إيضاح كل ما يتصل بوضع القطاع بعد وقف إطلاق النار المأمول. أقصى ما يمكن استخلاصه من تصريحات مسؤولي الحركة هو عزمهم "فرض" نهاية للحرب لا تتضمن انتصارا إسرائيليا صريحا. ووسط دوي الكلمات عن "منع الإسرائيليين من انتزاع مكاسب في المفاوضات عجزوا عن انتزاعها في الميدان" وما شاكلها، لا يبدو أن لدى "حماس" تصورا لما سيجري في القطاع وعلى مستوى القضية الفلسطينية ككل، باستثناء العودة إلى ما قبل 7 أكتوبر. وهذا وهم لن يتحقق.
لا يبدو أن لدى "حماس" تصورا لما سيجري في القطاع وعلى مستوى القضية الفلسطينية ككل، باستثناء العودة إلى ما قبل 7 أكتوبر. وهذا وهم لن يتحقق
وفي منأى عن التغطيات الإعلامية الملتهبة والحماسة المصطنعة عند البعض، ينبغي القول إن "طوفان الأقصى" ألحق أضرارا غير قابلة للإصلاح بالمستقبل الفلسطيني. كما أن المكابرة والاعتقاد بأن المظاهرات في شوارع مدن الغرب وبعض المقالات في الصحافة الإسرائيلية ستحقق للفلسطينيين ما لم يستطيعوا تحقيقه منذ انطلاق كفاحهم المسلح، مجرد استغلال لعواطف ومشاعر البسطاء وأن الواقع أسوأ بكثير مما يعتقدون.
ذلك أن هجوم 7 أكتوبر، إذا نُظر إليه بعين الموضوعية، ليس أكثر من عمل يائس قامت به جماعة يائسة، صُدمت بسهولة تخلي حلفائها عنها وبمستوى العنف الذي رد الإسرائيليون به واصطفاف القوى الدولية الكبرى إلى جانب إسرائيل، لكنها ليست قادرة على الاعتراف بأنها "ضُربت من بيت أبيها" قبل أن تمتد أيدي الأعداء إليها. وأن الاعتقاد باستجابة "جماهير الأمة" لدعوات الزحف إلى المسجد الأقصى وفتح الجبهات لقتال الاحتلال، لا يصدر إلا عن أشخاص منفصمين عن الواقع الذي يعيشه مليار ونصف المليار من العرب والمسلمين، وهو واقع ينطوي على برزخ واسع بين التعاطف مع المأساة الفلسطينية وبين الانضواء في القتال والعمل السياسي والميداني تحت إمرة يحيى السنوار ومحمد الضيف وحركتهما التي لا تتوقف عن توجيه التحيات إلى إيران ومرشدها، فيما لم تبرد بعد الدماء التي سفكتها طهران في دول عربية عدة في سبيل مشروعها الإمبراطوري. ألم يضع مخططو "الطوفان" في حساباتهم أن لا يستجيب أحد لدعواتهم ناهيك عن توقع المستوى الوحشي من العنف الإسرائيلي؟
يضاف إلى السذاجة هذه، إصرار طرفي الانقسام الفلسطيني في رام الله وغزة على إنكار مسؤوليتهما التي يتحملانها بالتكافل والتضامن، عن الوضع الكارثي للقضية الفلسطينية وعن رؤية لا أساس عمليا لها تربط بين الحراك الشعبي في دول العالم وبين إنجازات ستصب في نهاية المطاف في مصلحة الشعب والقضية الفلسطينيين. هذا وهم سبق الفصائل الفلسطينية المتنازعة إليه صدام حسين الذي ظن أن ملايين المتظاهرين في لندن وباريس ونيويورك سيحمونه من السقوط عام 2003.
جانب آخر كالح السواد في هذه اللوحة، هو التمسك بعقلية الضحية ورفض الاعتراف بالخطأ الاستراتيجي الذي ارتكب صبيحة 7 أكتوبر والامتناع عن الاعتراف بأن قتل المدنيين الإسرائيليين وسحبهم إلى غزة كأسرى وضع الفلسطينيين في موقف المعتدي أمام عالم منحاز مسبقا ضدهم. الجميع مسؤول عن الدم الفلسطيني المراق وعن دمار غزة وعن تغول المستوطنين في الضفة، والدول العربية ماضية في التنازل أمام الإسرائيليين، ولا يجب أن يرتفع صوت فوق صوت المعركة. هكذا يقولون.
لن تكون غزة المكان الأول الذي يُترك أهله لتدبر حياتهم على أنقاض المنازل والمستشفيات. أصحاب المصالح والحسابات الكبيرة لا يبالون بالمعاناة الإنسانية... وغزة لا تملك غدها بعدما تحطم حاضرها.