زواج تولستوي

زواج تولستوي

صدر في باريس كتاب "موت تولستوي" كتبه فلاديمير بوزنر. شاعر فرنسي من أصل روسي، وهو صديق الكاتب باسترناك والكاتب الروسي غوركي. يقول بوزنر إن تولستوي كان في كامل عافيته وقواه الجسديّة والنفسيّة. كان يركب الحصان ويصغي إلى الموسيقى ويعمل بدقّة ويردّ على الرسائل، ويقرأ بشغف كتّابا يجايلونه مثل غوركي وباسكال وموتن. إذن لماذا ما إن انتشر خبر هروبه من البيت في أيامه الأخيرة حتى تهافت "الصحافيون" إلى استابونو وتقدّموا العائلة، من دون أن يعرفوا أي شيء عن حياة هذا الكبير اليومية؟ جموع من تلامذة، تولستوي حاصروا المدينة. فكل شيء يصلح لمقالة كما يقول بوزنر، الأكاذيب، كما التساؤلات، كما التحاليل.

يعود الكاتب إلى زواج تولستوي من الكونتيسة صوفيا أندريفنا زوجته. تزوّجا، هو الكونت تولستوي الثري، صاحب الأراضي والثروات الكبرى، وصوفيا، التي صارت كونتيسة وهي أيضا ثريّة وقيصريّة. أي الاثنان من الطبقات العليا، هو عبقري، وهي أرستقراطيّة، فلا عِقَد طبقيّة علما أنها مثقّفة، تعزف البيانو، وتجيد عدة لغات.

إذن اكتلمت الأسباب التي تجعلهما سعيدين. لكن، ظهرت بعد الزواج إشكاليّة كبيرة، وهي أن زوجها يتضامن مع الفقراء والطبقات السفلى، ويدعو إلى السلم والمساواة بين الناس، ولا يقصّر في نقد الهيئات الحاكمة والكنيسة. الإشكال الثاني أنها أصابتها الغِيرة، فهي تحبّه بجنون، فمن الطبيعي، أن تغار على عملاق طبقت شهرته الآفاق، وله تلامذة يؤمنون بأفكاره. كأنّها كانت تريده كلّه. وقد صبّت غضبها على أصدقائه من الكتّاب الذين كانوا في رأيها يلهونه عن الكتابة، وهي حجّة واهية.

صارت العلاقة بين الزوجين صراعا بين كائنين متناقضين، هو ضاق بها، وهي تحبّه جنونا، لكنها تنتقد آراءه

 

صارت العلاقة بين الزوجين صراعا بين كائنين متناقضين، هو ضاق بها، وهي تحبّه جنونا، لكنها تنتقد آراءه حول الفقراء والكنيسة، لكن في العمق اتخذ تولّهها العاطفي به أشكالا بالغة الخطورة، خصوصا عندما انتقلت هموم تولستوي الشخصية (العائلة والكتابة) إلى هموم اجتماعية استمرت حتى موته. وعندها حوّلت نفسها إلى أضحية حقيقيّة على المذبح الزوجي. وقد تعاظم استئثارها وتملّكها، وليس مستغربا تبعا لذلك أن يلقي النقّاد والباحثون اللوم عليها، جاعلين تولستوي الأضحية على مذبحها. ويمكن القول، كما جاء في بعض تحاليل الكتّاب إن غيرتها عليه كانت أعمق وأقسى من رفضها آراءه، وأفكاره المعادية للطبقيّة. بل إن ثمّة عنصرا إضافيا هو شعورها بالنقص، على الرغم من مساعدته في أعماله الروائية باستنساخها عدة روايات وخصوصا "الحرب والسلم" (سبع مرات) وكذلك ساندته بكل قواها عندما ألقت عليه الكنيسة الحرُم. ولكن هذا لا يلغي ما يهتَجِس في داخلها من عِقّد دونيّة أمام تولستوي وهي التي نشأت في القصور مما أتاح لها الاطلاع على الآداب العالمية وإتقان العديد من اللغات. فإذا لم يكن يحفر فيها هذا الشعور بالنقص فمن أين كانت تهبّ العواصف التي عكّرت العلاقة بين الزوجين كلّ ذلك أدّى إلى تراكم بات العيش مستحيلا في المنزل العائلي، وضاقت الدنيا في عيني تولستوي مع تقدّم العمر.

وعندما في ليلة ليلاء غادر منزله سرّا بثياب الفقراء الرثّة، ترك رسالة لزوجته يقول فيها "إنّ حياته كانت عبئا وإنه يحتاج إلى العزلة" وطلب عدم القيام بالعثور عليه. إنها الرحلة الأخيرة لتولستوي الذي مات على مقعد في محطة قطارات يكرهها. أمّا الزوجة فأرادت إمّا أن تنتقم منه بعد رحيله، وإمّا أن تبرّئ نفسها مما كتب ونُشر، إنها سبب تركه، المنزل لأنه ضاق بها وبمزاجها، فأصدرت مذكّراتها، وهي مزيج من إعلانها حبّه، والتعرض لسلوكه، وإظهار كم ساعدته في أعماله وتربية أولاده.

 أتراه هرب من الثراء في قطار الدرجة الثالثة متنكّرا بثياب الفقراء، كأنّه تعمد في النهاية أن يموت فقيرا؟

 

لقد رأت فيه نوعا من التناقض، "كيف يفهم سيكولوجية البشر ولا يفهم زوجته وأولاده"، بل وصل بها الأمر إلى الطعن بمصداقيّته "وهو الذي لا ينفك يدعو إلى الفضيلة، والترفّع هن الشهوات فيما تدعو رواياته إلى الجنس والرذيلة؟". قالت "قرأت خفية مذكّراته وفجعت بأنه يصفني بالحمقاء والتافهة وشبّهني بزوجة سقراط التي كانت تجلده بسوط كلّما خالف أراءها".

على هامش هذه الأخبار التي حصرت هروبه من بيته والموت على مقاعد أحد القطارات، يمكن القول إنّ هذه الأسباب قد لا تكون كافية لهروبه من الموت. السؤال: لماذا لم يفعل ذلك قبل إدراكه الثانية والثمانين، وهل صبر عليها كلّ هذه السنوات حتى ينتقم منها؟

يمكن ربط ذلك بأمور أخرى: أوصى بتوزيع أملاكه الشاسعة على الفقراء، كأنّما ليُوحي بأنّه في أواخر عمره، خالطته مشاعر الخطأ: أن يعيش حياة الأثرياء الذين ينتقدهم بذلك الترف والوفرة، كأنّه منفصل عن دعواته وأفكاره. كره حياته مع زوجته. نعم! لكن إضافة إلى الأسباب المعروفة فإنّ نظرتها الفوقيّة إلى الفقراء وهي "بنت الحسَبْ والنَسَب" توّجت هذه الأسباب.

وثمّة احتمال آخر: فبرغم محافظته في الثمانين على القوّة والنشاط، فقد شعَرَ أن كلّ شيء اكتمل، ليهرب إمّا إلى العزلة، وإمّا إلى الموت. وهنا نقول إن بعضهم برّأ الزوجة من أنّها السبب في هروبه، وردّ السبب إلى تولستوي وأفكاره الاجتماعية التي تختصر مطالبته الدائمة بالمساواة وإلغاء الطبقات الاجتماعية. لكنه رأى أن كلّ ذلك لم يتحقق، وهنا يقال إن ضميره أبى عليه تمتّعه بامتيازات أسلوب الحياة الأرستقراطيّة، وهو يروج للقيم المسيحيّة، أتراه هربَ من شعوره بالفشل واشمأزّ من نفسه. أتراه هرب من الثراء في قطار الدرجة الثالثة متنكّرا بثياب الفقراء، كأنّه تعمد في النهاية أن يموت فقيرا؟

font change