يجمع المخرج وكاتب السيناريو الألماني كريستيان بيتزولد في فيلمه "مشتعل" Afire، "مشتعل" 2023، مفردات الفشل وخيبة الأمل واليأس، ليصبّها بعناية وهدوء في شخصية بطله، الممثل توماس شوبرت في دور الكاتب الشاب ليون، وهو بطل يميل إلى البدانة، محبَط، بليد، كئيب دون جاذبية، وكأنه يحتاج إلى نصيحة العبارة الخالدة للكاتب في فيلم ستانلي كيوبريك "ذا شاينينغ" 1980، وهي "العمل الدائم دون لعب يجعل من جاك ولدا مملا"، على الرغم من وجود اختلاف بين الكاتبين، وهو أن صمام الأمان القوي عند ليون لا يعرّضه للانفجار مثل شخصية جاك نيكلسون.
تبدأ أحداث الفيلم بانطلاق ليون وصديقه الممثل الجامايكي لانغستون أويبل في دور فيليكس، في سيارة، لتمضية عطلة صيفية هدفها العمل. على أحد شواطئ بحر البلطيق، بيت صيفي لوالدة فيليكس، يقع على مقربة من غابة تحترق بوتيرة متسارعة، وسط تحذيرات من إقامة المخيمات وحفلات الشواء. النار في فيلم "مشتعل"، هي عنصر من العناصر الأربعة التي يستند إليها بيتزولد استنادا رمزيا فلسفيا، أي أن نظرته إليها تتجاوز حرائق المناخ، لتصبح رمزا للموت والفناء. يبدو بيتزولد هنا متأثرا بالمخرج الروسي أندره تاركوفسكي الذي استخدم معاني العناصر الأربعة في أفلامه، مثل عنصر الماء في فيلم "نوستالجيا" 1983، وعنصر النار في فيلم "القربان" 1986.
أصل الحكاية
في مقابلة مع "لوس أنجليس تايمز"، وفي مقابلات كثيرة، بعد فوزه بجائزة "الدب الفضي" في مهرجان برلين، تحدث بيتزولد عن ولادة فكرة فيلم "مشتعل" في 2020، عندما كان مصابا بكوفيد 19، وبقي طريح الفراش، يشاهد أفلام المخرج الفرنسي إريك رومير عن العطل الصيفية، وخصوصا فيلم "بولين على الشاطئ" 1983، ويقرأ بالمصادفة قصة لأنطون تشيخوف عن فنانَين فاشلين، أحدهما كاتب، والآخر رسّام.
النار في "مشتعل"، هي عنصر من العناصر الأربعة التي يستند إليها بيتزولد استنادا رمزيا فلسفيا
تتعطل سيارة ليون وفيليكس بسبب غفلتهما عن نفاد ماء المشعاع، وعليهما الآن الوصول إلى البيت الصيفي مشيا، بضعة كيلومترات في الغابة، لكن فيليكس صاحب البيت لا يكاد يعرف الطريق، فيذهب للتأكد، تاركا ليون. بعد وصولهما البائس مشيا، يُفاجأ ليون وفيليكس، بأن نادية، قريبة صديقة والدة فيليكس، تمضي هي أيضا عطلة صيفية في البيت.
فشل وتعقيد الترتيبات الأولى، ينذران بالكوميديا، إلا أن تعقيدا ينشأ ليس في حسبان كريستيان بيتزولد، وهو أن الكوميديا تنحرف إلى شيء بارد، محرج، يسري تحت الجلد، ذلك أن الكوميديا تخرج من المزاج الألماني كماكينة نسيج ثقيلة الوزن، جيدة الصنع، إذ يصعب علينا استخراج لمسات الكوميديا من ماكينات الإخراج الألمانية الكبرى، مثل راينر فاسبيندر، وفولكر شلوندورف، وفيم فيندرز، وفرنر هرتزوغ، أمّا المخرج الألماني إرنست لوبيتش في أفلامه الكوميدية العظيمة مثل "نينوتشكا" 1939، فهو استثناء خارق لا يُقاس عليه.
من الممكن اعتبار حديث كريستيان بيتزولد عن رؤيته للكوميديا في التحضيرات التمهيدية لفيلم "مشتعل"، نوعا من المفارقة، طالما أن أبسط ذريعة لتوليد الكوميديا، وهي بدانة ليون، لا تُستخدم طوال دراما الفيلم، بل إن ذهابه الى الشاطئ بحقيبة ظهره، وملابسه العادية، وحذائه المقفول، يبعث شعورا بخجل ليون من جسده، وهو شعور جاد كئيب، وبعيد كل البعد عن أجساد وشواطئ المخرج إريك رومير المرحة.
ليون أنجز كتابه الأول، ولا نعرف عنه شيئا، فقط نعرف عنوان روايته الثانية، "كلوب ساندويتش". اسم الرواية السخيف يتسبّب بإحراج له، وكأنّه يُقدّر السخرية، ويقبل وضع تعديلات أخيرة على روايته، لكن ليس من بين التعديلات، تغيير عنوانها. إن عنوان الرواية، على ما يبدو، يمثل لليون خزيه الشخصي، عار وجوده وصليب فشله.
فيليكس عليه أن يلتقط مجموعة من الصور الفوتوغرافية، تجسّد موضوعا خاصا بدراسته للفنون الجميلة. ليون مهموم بالعمل على عكس فيليكس الذي يريد الاستجمام والسباحة. ينتقد فيليكس صديقه ليون الذي يكرّر كلمة "عمل". يرى فيليكس أن إصلاح سقف البيت، إصلاح سيارة، الطبخ، الغسيل، نوع من العمل. يرد ليون بحساسية على فيليكس: "هل تقصد أن الكتابة ليستْ عملا، أو أنها عمل الضعفاء".
شرك الإهانة
كريستيان بيتزولد مثل الكتّاب العصابيين الذين يستدرجون أبطالهم إلى شَرَك الإهانة، ومنهم دوستويفسكي وكافكا. صحيح أن فيليكس ينتقد تهافت كلمة "العمل" التي يردّدها ليون كثيرا، إلا أن قسوة الإهانة الصريحة، الجارحة، نطق بها ليون نفسه "الكتابة ليستْ عملا، إنها عمل الضعفاء". لكل كاتب عبارته، وكما وجد جاك نيكلسون عبارته المهيبة في فيلم "ذا شاينينغ"، يجد ليون عبارته الخاصة. إن الضعف صيغة وجوده، وقد يجد ليون بعد بحث، تعزيزا لوجوده المازوخي، عبارة نيتشه الشهيرة "دافعوا عن الأقوياء ضد الضعفاء".
تطلب الممثلة باولا بير في دور نادية، بائعة الآيس كريم، المقيمة في البيت الصيفي، من ليون، قراءة روايته، بعد معرفة اسم الرواية، "كلوب ساندويتش". يرفض ليون بغضب، فأقل ملاحَظَة غبية في غير محلها، سيتضرّر منها كثيرا. يحاول تحسين كلماته الغشيمة، فيزيد الطين بلة، ودن قصد منه، يطابق معرفة نادية الأدبية، المحتمَلَة، بمعرفة عاملة النظافة في بيت والدة فيليكس، التي حكى لها مرة عن قصة كتبها، فكان حكم عاملة النظافة، أن قصة ليون عاطفية أكثر من اللازم. يعتذر ليون وسط صمت نادية، ويسمح لها بقراءة روايته. نادية بعد القراءة، تعطي ليون الرواية، متجهمة. الرواية سيئة، لا مجاملة من نادية، بل إنها ترفض الخوض في تفاصيل الرواية. قسوة نادية هذه لم تكن متوقعة.
يعود ليون الغاضب، لتشبيه نادية بائعة الآيس كريم، بعاملة النظافة. يكثف كريستيان بيتزولد تسديد الضربات المؤلمة، تحت حزام بطله ليون، بانضمام ديفيد، الصديق الحميم، المشترك، لنادية وفيليكس، وهم يستمتعون بالطعام والسباحة وإصلاح سقف البيت الصيفي، بينما يبقى ليون مكبلا، مرهونا للعمل، وفي انتظار الوقت المناسب للعمل تزداد تعاسته.
بيتزولد مثل الكتّاب العصابيين الذين يستدرجون أبطالهم إلى شَرَك الإهانة، ومنهم دوستويفسكي وكافكا
يستعد ليون لزيارة الممثل ماتيس براندت في دور الناشر هيلموت الذي سيقرأ معه بعض التعديلات على روايته "كلوب ساندويتش". يستقبل ليون سيارة هيلموت الذي يمد يده لمصافحة باردة، محايدة، تناسب ستينات عمره، في حين يضطره ليون بفتح ذراعيه، لاحتضانه. يمرّر كريستيان بيتزولد ببراعة، عبر التفاصيل الصغيرة، الشفقة والعطف على ليون، ثم يسحبهما سريعا بسبب حماقة ليون في فهم الآخرين.
أثناء قراءة هيلموت، يرن هاتفه المحمول، فيبتعد عن جلسة ليون، لاستقبال المكالمة. يتلصص ليون على مسودة روايته التي يقرأ منها هيلموت، فيجد مذبحة شطب وتعديل في معظم الصفحات. بتفاصيل صغيرة، لا أخلاقية، يحافظ كريستيان بيتزولد على تجميد التعاطف مع ليون.
يجد الناشر هيلموت ضالته في أصدقاء ليون، نادية وفيليكس وديفيد، وعلى العشاء يبدي اهتماما بصور فيليكس الفوتوغرافية، ويقترح عليه كتابة نصوص ملحقة بالصور. ينظر فيليكس بلامبالاة وبراءة الى الناشر، ويقول له إن الكتابة ليست مهنته، ثم تأتي أكثر الضربات قسوة من المخرج بيتزولد لبطله ليون، وهي أن نادية عاملة الآيس كريم، هي عاملة موسمية، وتحضّر لنيل الدكتوراه في الشاعر الألماني الكبير هاينريش هاينه (1797- 1856)، بمراجع للكاتب الألماني الكبير أيضا، هاينريش فون كلايست (1777- 1811).
يحدّق ليون بوجهه العجيني في نادية. إذن هي محترفة في الأدب، وذوقها أرقى بمراحل من ذوق عاملة النظافة، لكن كيف كانت الكلمات القليلة من عاملة نظافة عن قصة قديمة كتبها، قريبة من كلمة نادية المقتضبة عن روايته الحديثة "كلوب ساندويتش"؟ هل نجح ليون في توحيد الذوق أمام كتابته؟ أم أن كتابته تفلت من التقييم، بصرف النظر عن اختلافات الذوق؟
ما يحدث بعد ذلك وصولا إلى ختام الفيلم، هو مفاجآت سردية أخرى، يترك بيتزولد فيها الأحداث معلقة أو محيّرة في أقلّ تقدير.