كتب سبينوزا: "أميز أشد التمييز، التهكم، الذي قلت إنه أمر قبيح، من الضحك. ذلك أن الضحك، مثله مثل السخرية، هو غبطة لا تشوبها شائبة. شريطة ألا يقع في المبالغة، فهو خير في ذاته".
ليست السخرية هي التهكم. التهكم يصدر دوما عن ادعاء، صريح أو ضمني. المتهكم يشعر دوما أنه من سلالة رفيعة. لذلك هو لا يتهكم على نفسه. ليس هناك تهكم انعكاسي réflexif. على عكس السخرية التي تسخر من نفسها قبل كل شيء. السخرية متواضعة أخلاقا، وهشة وجودا، أما التهكم فيصدر عن إحساس برفعة المنزلة، وقوة المكانة، وثبات المرتكزات. إنه يقف دائما على أرض صلبة، وهو دوما في موقع انتصار، موقع من يتصيد نقاط الضعف، وينتظر لحظات الوهن. المتهكم يشعر أنه يتكلم ويكتب ويبدع من موقع الحقيقة والخير والجمال. ما يطبعه أخلاقيا هو الثقة الزائدة بالنفس، ومعرفيا هو الوثوقية والتمسك بالرأي، وجماليا الإيمان بثبات القيم وسكونها. لذا هو يلبس لبوس الجد والوقار، ويستكين إلى المكانة الثابتة، والحقيقة الواحدة، والقيمة الخالدة.
أما الساخر فلا يرتاح إلى نفسه، ولا يركن إلى موقع بعينه، لا يرتاح إلى أي شيء، وما ذلك إلا لأنه يضع "الوضعية البشرية" برمتها موضع سؤال.
تضع السخرية نفسها جهة الأسئلة وتوليدها، وهي لا تتسابق نحو اجترار الأجوبة وملء الفراغات. السؤال طلب، وهو تعبير عن نقص وعوز، لكن، ليس السؤال ناقصا بما هو سؤال. بل هو، على العكس من ذلك، الكلام الذي يكتمل عندما يفصح عن نقصه وعدم اكتماله. "السؤال يضع الإثبات الممتلئ في الفراغ فيكسبه غنى وثراء بفضل هذا الفراغ"، كما كتب بلانشو. الموقف الساخر لا يهاب الفراغ، فهو انفتاح يرضى بانفتاح أرحب، وهو يشرع أبواب الفرقة والخلاف على مصراعيها.
تضع السخرية نفسها جهة الأسئلة وتوليدها، وهي لا تتسابق نحو اجترار الأجوبة وملء الفراغات
تُسلم السخرية بأن لا سبيل أمام "خبث" الوجود ومكر التاريخ إلا عدم الركون إلى المباشرة، وبالأولى إلى التقليد والاجترار والرتابة. وهي ترى أن الأمور ليست بالضرورة التي تدعيها، وأنها محكومة بالجواز Contingence، أي أنها كان يمكن أن تكون على غير ما هي عليه. وكونها لا تتحكم فيها عقلانية مطلقة، هناك دوما جواز يتلبّس الضرورة، وشك يهدّد اليقين، ولا معقول يتلبس المعقولية. هذا ما يجعل السخرية دائما في حيرة من أمرها، بعيدة عن موقف الانتصار والقوة، وأقرب إلى الفشل والعجز. تفقد الأشياء في عين الموقف الساخر ضرورتها الوهمية، وتكشف عن هشاشتها الفعلية فتسترجع نسبيتها. لذا ما يهم الموقف الساخر ليس الإقناع ولا التأسيس، وإنما التحرر من عنف البلاهة، ومقاومة الفكر الجاهز.
على هذا النحو لا يمكن للعقل الساخر أن يكون وعظيا، إنه لا يَهدي نحو طريق، ما دام يفتح طرقا متشعبة. وهو أميل إلى تعقيد الأمور منه إلى تبسيطها. فهو يؤلف ويركب أكثر مما يحلل ويقسم. لذا هو لا يركن إلى المباشرة والبداهة. وهو لا يفتأ يشعر أنه عاجز عن التحكم في الأمور، والوقوع على معاني الأشياء. فهو يفترض دوما خبثا وراء توليد الدلالات، يفترض سوء تفاهم أصليا: فينتهي بأن يسلم بأن الدلالات نتائج جهد وعراك وعنف، وبأنها بنات الليالي المعتمة، وبأنها لا تُعْطى إيانا في نور أول صباح.
لذا قلنا إن العقل الساخر لا يمكن أن يكون إلا متواضعا. كان كونديرا قد كتب: "السخرية، ذلك البريق الإلهي الذي يكتشف العالمَ في التباسه الأخلاقي، والإنسانَ في عجزه عن أن يحكم على الآخرين. السخرية: نشوةُ نسبيةِ الأشياءِ البشرية، اللذةُ الغريبةُ التي تتولد عن اليقين بأن لا يقين".
عندما نقول إن العقل الساخر يسخر من نفسه أولا ومن قدراته، ذلك لا يعني أنه عقل مستهتر لا يعبأ بشيء، أو أنه ميال نحو السهولة واللهو، وأنه موقف عدمي يسقط في "هاوية الأعماق التي لا أساس لها"، إنه على العكس من ذلك، "فن التفردات الحرة التي تنشد الأعماق المسطحة، فن التفردات الرحالة والنقاط العشوائية التي لا تنفك تتنقل"، حيث يلتقي المعنى واللا معنى ليكفا عن التعارض التقليدي بينهما كي يدخلا الحضور المشترك للنشأة الساكنة.
لا عجب أن تقترن السخرية بمسحة مأسوية. العقل الساخر عقل مأسوي، وهو دوما مأساة ساخرة وسخرية مأسوية. إنه أبعد ما يكون عن العقل الديكارتي، عقل البداهة والوضوح. فليست فضيلته أساسا تمييز الصواب من الخطأ، وإنما أن يبين، كل مرة، أن الثنائيات المعهودة في مجال المنطق والأخلاق ليست بالتمايز والصرامة المزعومين، وأن بينها دائما قيما تتوسطها. هو إذن عقل المفارقات. وهو يجمع بين متناقضات عدة: إنه في الآن نفسه مرح ومأساة، سكون وحركة، معنى ولا معنى، شك ويقين، عقل ولاعقل... إنه يضَعُ نفسه "في ما وراء الصواب والخطأ"، ولكن أيضا في ما "وراء الخير والشر". لذلك هو يحتال بشتى الطرق كي يوقع العقول الجدية في ارتباك، وينزع عنها وقارها، ويُفقدها ثقتها بنفسها، ويُخرجها عن "صوابها". لا يمكن للعقل الساخر إذن أن يكون وثوقيا، إذ هو "يقين بأن لا يقين" كما قال كونديرا. وهو لا يمكن أن يكون إلا مأخذا نقديا. تتنافى السخرية تمام المنافاة مع الدوغمائية والاعتقاد الراسخ. لذا هي تتجند لفضح الوقار الكاذب للفكر الوثوقي، وكشف جديته الخداعة، لتجعله يفقد وثوقه وثقته بنفسه.
لا يستند العقل الساخر إلى أي سلطة، لكنه لا يُنصّب نفسه كذلك سلطة
لا يستند العقل الساخر إلى أي سلطة، لكنه لا يُنصّب نفسه كذلك سلطة. وهو لا يمكن أن يكون جهة العنف والاستبداد والاعتداد بالرأي والانغلاق. إنه على العكس من ذلك سعي وراء فتح الأبواب، والانفلات من قوة الأشياء، لكن أيضا من "قوة الكلمات" وفاشيّة اللغة. العقل الساخر لا يحتمي بأسوار يغلقها على نفسه، فهو لا يفتأ يفتح المنافذ للتواصل مع الآخر والانفتاح عليه، والحوار معه. تترعرع السخرية في سياق لا يكتفي بـ"تقبل" الآخر، وإنما باعتباره شرط وجود الذات. إنها تعتبر "الأنا آخر"، فترمي بالذات في حركة لامتناهية للانفتاح تحول بينها وبين كل انطواء وقناعات راسخة واكتفاء ذاتي.
يشعر الموقف الساخر بضعف التفرد أمام قوة التعدد، وضيق التوحد أمام شساعة التنوع، وفقر الاقتصار على الأنا أمام غنى الآخر، وحدود الانطواء على الذات أمام لانهائية الأبعاد الممكنة. لذا لا يمكنه أن يتعصب لرأي، أو يتعلق بأنموذج في عينه، فهو يمتنع عن وضع نفسه في جهة بعينها، ويكف عن التهكم من الآخر ليسخر من ذاته، ومن الآخر الذي يسكنه.