لم نشهد سنوات الحرب العالمية الثانية، ولكننا عندما نريد الاطلاع على أبطالها نعود إلى مذكراتهم الشخصية وما كتبوا عنها، أمثال ونستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني الذي قاد بلاده من الهزيمة إلى النصر. وكذلك الجنرال الفرنسي شارل ديغول الذي كتب مذكراته عن سنوات الحرب وما بعدها في 4 أجزاء هي: النفير، والوحدة، والخلاص، والأمل. وعندما نريد التعرف على السياسيين الذين انتشلوا بلدانهم من ركام التخلف والفقر إلى مصاف الدول المتقدمة وحققوا نجاحات باهرة في التنمية والعمران، بالتأكيد نقرأ مذكرات رئيس وزراء ماليزيا (1981-2003) الدكتور مهاتير محمد، والتي كان عنوانها "طبيب في رئاسة الوزراء". وأيضا نقرأ مذكرات لي كوان يو، لنتعرف على "قصة سنغافورة" في التحول من العالم الثالث إلى العالم الأول.
الفكرة من استحضار هذه الأسماء ومذكراتها هي المقارنة مع مذكرات ساسة العراق بعد أكثر من عشرين عاما على تغيير النظام السياسي فيه. إذ لو افترضنا أن الأجيال اللاحقة تريد التعرف على ما حدث بعد 2003 وتطورات الأحداث السياسية، وكيف نفهم جدلية التحول نحو الديمقراطية التي أنتجت لنا فسادا وفوضى ودولة هشة؟ بالتأكيد هناك من يحاول البحث عن الإجابة في ما كتبه الساسة العراقيون في مذكراتهم أو كتبهم ومقالاتهم.
الملاحظة المهمة التي يجب استحضارها، أن مذكرات الساسة العراقيين منذ تأسيس الدولة العراقية يجب التعامل معها بحذر شديد، كما هو الحال مع أي مذكرات سياسية. ففي تتبع تاريخي للمذكرات الشخصية للسياسيين العراقيين، يشخّص عالم الاجتماع والمفكر العراقي عصام الخفاجي بدء سيل المذكرات الشخصية في الثمانينات بين رجال العهد الملكي الذين أحسوا متأخرين ربما بأن عودة الملكية إلى العراق باتت مستحيلة، فأخذوا يذكّرون أجيالا من القراء لم تعش حقبتهم بأدوارهم الوطنية في صناعة العراق الحديث ومحاولة إزالة ما علق بأذهان الناس العاديين عن علاقتهم بالدول الغربية بوصفها "عمالة" أو "تبعية". ثم جاء سيل ثان من المذكرات عن ثورة 14 يوليو/تموز 1958 التي أزالت الملكية في العراق. وكما هي العادة، قرأنا أعمالا لأناس من شتى الاتجاهات، كل يريد إقناعنا بأن الثورة علامة تجارية مميزة لشخصه أو لتياره السياسي. وفي الدفق الثالث من المذكرات، مسحة درامية أكبر مما نجد في الحالين السابقين، كما يعتقد الدكتور عصام الخفاجي. ويعني هنا نوعا من المذكرات، لم نعتد عليه، لقادة ينتمون إلى تيارات لا تزال ترى، أو تقنع الناس أنها جزء من الحاضر لا الماضي: شيوعيون وبعثيون وقوميون باتوا يتبارون في الحديث عن تجاربهم مع أحزابهم، وتجارب أحزابهم مع المجتمع العراقي، وروايات لأحداث لا نزال نعايش بعضها.
في الفترة الأخيرة، بدأت مذكرات الشخصيات السياسية العراقية تحضر في المكتبات وفي معارض الكتب في العراق، وهناك كتابات من شخصيات كان لها حضور فاعل في صناعة رأي عام مؤثر في عملية تغيير نظام حكم صدام حسين. ولكن أغلب ما تم الاطلاع عليه فيه الكثير من الشخصنة ومحاولة تحريف الحقائق والمواقف التي كنا شهودا عليها.