هذا العام، أقدم السيناريست محمد هشام عُبية مع المخرج تامر نادي في "صلة رحم" على طرح قضية جديدة، ربما يُحظر ضمنيا الحديث عنها علنا، وهي المعروفة إعلاميا بتأجير الأرحام، أي أن يلجأ الوالدان اللذان يُعانيان من صعوبة في الإنجاب إلى رحم امرأة بديلة، تحمل بدلا من الأم الحقيقية، لكن مع الاحتفاظ بالخواص البيولوجية للوالدين الحقيقيين، عبر تفاصيل طبية مُعقدة، صارت ميسّرة مع التطور العصري.
المسألة خلافية، وقد تكون المرة الأولى التي تُعالَج فيها في عمل درامي مصري. المتحفظون سيرفضون مناقشة الفكرة، سواء لتعقيداتها الأخلاقية، وحرمتها الدينية وفقا لبعض الآراء، ما بالك بتفكيكها وطرحها بهذا الشكل في مسلسل تلفزيوني. الواقع أن "صلة رحم" يسير عبر حلقاته الخمس عشرة، خطوة خطوة مع المُشاهد، فيؤسس لشخصية البطل حسام، التي لعبها إياد ناصر، بتعقيداته النفسية، وشعوره بالذنب الذي يلازمه منذ الطفولة، ويكاد يحدّد مصيره التراجيدي منذ الحلقة الأولى. كما يقدّم شبكة الشخصيات التي ستلعب أدوارا متباينة في المسرحية التراجيدية التي رسمها حسام، بدءا من زوجته ليلى (يسرا اللوزي)، والمسافة النفسية والفكرية بينها وبين زوجها. ثم حنان (أسماء أبو اليزيد) التي سيقع عليها الاختيار لتنفيذ المهمة التي يُمكن أن تُرى باعتبارها تحديا للقدر. طبيعتها الهشّة، عوزها وتعرضها طوال سنوات لعنف زوجها السابق بلا حماية، تخلق منها ضحية لا حول لها ولا قوة. ثمة شخصيات أخرى فرعية، ممتعة مشاهدتها والتكهن بما يمكن أن تقدمه في رحلة البطل، سواء من معوقات أو من محفزات، وبطريقة سمحت بالإضاءة على أداءات جذابة جدا للممثلين.
المسلسل في مجمله يُبرز تميُّز عنصر التمثيل، فإلى جانب الأداء القوي لنجوم الصف الأول إياد ويسرا وأسماء، الذي يعود بالطبع إلى رسم جيد للشخصيات من الكاتب، وقدرة على إدارة الممثلين من المخرج، يلفتنا على سبيل المثل أداء ريم حجاب في شخصية "ميتر مديحة"، بعنادها وعاطفيتها واعتزازها بنفسها، وبلغة جسدها المعبّرة عن ذلك كله.
بالطبع، ثمة ما يمكن أن يُقال نقديا عن العمل. فإن كان يفتح جرحا خفيا في جسد المجتمعات العربية، فإنه مع ذلك يبدو حذرا، وهو حذر مفهوم بالطبع. فنراه يكرّس تقريبا حلقة كاملة للفتوى الدينية، وبإسهاب زائد على الحاجة. كما تنطلق قصة حسام نفسها من رؤية سلبية للشخصية، وللنظر إلى فعلتها باعتبارها الخطيئة التراجيدية التي ستودي به في النهاية. ذلك، لا ينفي أن "صلة رحم" ربما يكون أحد أهم الأعمال التلفزيونية، التي شهدها موسم رمضان هذا العام.
"لحظة غضب": رؤية نسوية وفنية جديدة
إن كانت قضايا النساء، لا سيما المتعلق منها بالعنف الزوجي، قد طُرحت من قبل في الدراما المصرية، لا نزال نتذكر منها "ذات" مثلا، أو "سجن النسا" أو حتى "فاتن أمل حربي"، فإن "لحظة غضب" مفاجأة هذا العام، بتقديمه لتأثير العنف غير المباشر على الزوجة المطيعة الطيّعة يمنى، تؤدي دورها صبا مبارك، الذي يقودها في النهاية إلى ارتكاب ذلك الفعل الإجرامي الذي يقلب حياتها رأسا على عقب.
هو مفاجأة، لأن العمل اختار قالبا كوميديا ساخرا، وليس تراجيديا ثقيلا على النفس، ومع ذلك لم يؤدِّ هذا الاختيار إلى استسهال في البناء الدرامي للعمل، ولا لاستخفاف في رسم شخصياته، على العكس. المسلسل الذي كتبه مُهاب طارق، وأخرجه عبد العزيز النجار، يقرّبنا من يمنى بالتدريج، بالأخص شتاتها وتمزقها النفسي والفكري، كنتيجة طبيعية لسنوات طويلة من الإساءة، قد لا نكون رأيناها في العمل، لكن نتائجها بيّنة في الحاضر. إنها مهزوزة الشخصية، خاضعة لبطش الزوج شريف، يؤدّي دوره كضيف شرف في الحلقة الأولى محمد فراج، في سلوكيات مهينة، تحاول في كل مرة أن تتغلب عليها بأكبر قدر ممكن من الخضوع والتمرير، على أمل أن تفوت نوبة سوء المزاج غير المفهومة تماما دوافعها.
لكن كلما ازداد خضوع يمنى ازدادت إساءة شريف، إلى أن تحين تلك اللحظة من الغضب، الذي يجتهد السيناريو مع ذلك كي يخبرنا أنها لم تكن لحظة قط، بل هي نتيجة لغضب طويل ومكبوت. هذا الإبحار في شخصية يمنى، مخاوفها ومهاراتها المدفونة، ما كان يمكن أن يتجسّد بهذه القوة على الشاشة لولا الأداء اللافت للنجمة الأردنية صبا مبارك، وكأن "لحظة غضب" هو إعادة اكتشاف لها بالتوازي مع رحلة يمنى في اكتشاف نفسها، واكتشاف الحياة التي كانت تختبئ منها ويحجبها حضور هذا الزوج.
في مقابل ارتباك إيقاع الأعمال التلفزيونية بميلها غالب الأحايين إلى المط والتطويل، خلال شهر رمضان، حافظ "لحظة غضب" على إيقاعه، على روحه الخفيفة بالنكات والشخصيات الخفيفة الظل أو الغريبة الأطوار، وواصل تغذية الحالة الجديدة التي خلقها. نشاهد هنا أداءات ممتعة للممثلين منهم: محمد شاهين وسارة عبد الرحمن وصفوة وناردين فرج وعلى قاسم وعبد الرحمن محمد، وحتى الطفل المصدوم آدم النحاس. في النهاية، هو مسلسل جريمة من منظور فانتازي لكننا لسنا مشغولين بالبحث عن القاتل. بل قد نكون في لحظة، تواطأنا مع يمنى في لحظة الغضب تلك.
"مسار إجباري": حنين إلى سينما الثمانينات
يردنا "مسار إجباري" إلى كثير من ملامح موجة الوقعية في سينما الثمانينات المصرية، وفي القلب منها سينما محمد خان. إنه في الأصل عمل للمخرجة نادين خان، ابنة المخرج الكبير، وهي اختارت أن تصوّر ممثلي العمل، وهم يسيرون في شوارع وسط القاهرة، وفي أزقتها الحميمة كما كان يفعل والدها. المسلسل الذي كتبه: أمين جمال، محمد محرز، مينا بباوي. وكتب معالجته الدرامية باهر دويدار، يطرح نفسه كمسلسل حالة، أكثر منه عملا يناقش قضية. إنه يناقش فعلا، لكن حميمية العلاقات الإنسانية، إن كانت تلك من النوع الذي يناقش بالعقل لا بالاختبار والعواطف. يقرر قدر الشابين علي (عصام عمر)، والسُنس (أحمد داش) أن يتقاطع طريقاهما المختلفان جذريا، حين يتبين أنهما ابنان للأب نفسه، في لحظة حداد وفقد لهذا الأب غير المثالي.
الأخوة المباغتة والزائدة على الحاجة، أو على الأقل الرغبة، تمثل هذا المسار الإجباري الذي على البطلين أن يسيرا فيه. لا البطلان فقط، إنما باقي الأسرتين، ولم تكن إحداهما تعرف شيئا عن الثانية. من جهة أسرة إحسان، تؤدي دورها صابرين، وهي ناظرة مدرسة منضبطة وعنيدة. ومن جهة ثانية أسرة نعناعة، تؤدي دورها بسمة، الأسرة الشعبية البسيطة والدافئة التي تعاني من بطش مضاعف من الحياة بها، بسبب وضعها في السلم الاجتماعي.
تفاديا للملل، أو لإضعاف الدراما، كالذي حدث العام الماضي مثلا مع مسلسل "تغيير جو". ورّط الكُتّاب أبطالهم في تبعات سلوكيات الأب التي طاردته هو في أيامه الأخيرة، وها هي الآن تلاحق أسرتيه. والطريقة المثلى لإحداث التشويق، جريمة قتل، وافق الأب، الذي كان يعمل في الطب الشرعي على تلفيقها إلى شخص ما، لتبرئة الجاني الحقيقي. من هنا سيشعر الأب بالذنب، وسينقل إلى ولديه مهمة التكفير عما فعل، وهو قاب قوسين أو أدنى رحيلا منها. أما الشرير، أو مجموعة الأشرار الذين سيتصدّرون كعقبة ظاهريا، لكن كمحفز واقعيا لتعميق أواصر الأخوة، فلا يفتقدون خفة الدم، وسمات الشخصيات اللافتة. في مقدمهم المحامي الداهية مجدى حشيش (رشدي الشامي) ناصب الفخاخ حول الأبطال، بتفلسفه الخفيف الظل حول أهمية الشر، ودوره الكوني في حفظ التوازن، وعن جدارته بأداء هذا الدور، بأدواته الخاصة.
المسلسل الذي يتخذ اسم فريق غنائي لأغانيه الناجحة، "مسار إجباري"، يعتمد أيضا على استكشاف المساحات الحميمية في بيوت الطبقة المتوسطة، لا سيما بيتي نعناعة وإحسان، وستنمو بينهما علاقة صداقة من نوع خاص، تتجه إلى هدف واحد هو العناية بالأسرتين. إضافة طبعا إلى جولات في شوارع القاهرة، وبعضها ستأخذنا إليه سيارة الطعام التي يعتاش منها "السنس"، التي تضيف بعدا جماليا بصريا وحميميا للعمل.
قد لا يكون إيقاع المسار الإجباري هو الأسرع، لكن السرعة هنا ليست هي الرهان، إنما هو الشعور العام. الهروب من قسوة الواقع، إلى الدفء غير المتوقع لخطوب الحياة. الفكرة نفسها تعبر عنها أغنية التيتر الجميلة التي يغنيها فريق "مسار إجباري" في البداية والنهاية. "مسار إجباري"، مفاجأة سارة تثبت أن احتمالات صناعة دراما خارج المعتاد والمتوقع، ليست محدودة، إنها فقط تتطلب بعض الجرأة، وربما بعض اللجوء إلى السينما.
"أغمض عينيك"... طيف التوحد على الشاشة
يعرف صُناع المسلسل السوري، "اغمض عينيك"، كيف يورطوننا عاطفيا في المشاهدة، منذ الحلقة الأولى. من تأليف أحمد الملا ولؤي النوري، وإخراج مؤمن الملا، يجمع المسلسل بين النجمين السوريين أمل عرفة وعبد المنعم عمايري، إلى جوارهما كوكبة من النجوم الآخرين، في مقدمهم منى واصف، فايز قزق، أحمد الأحمد، محمد حداقي. وينهض على حكاية الصبي جود، الذي يتطلب رعاية من نوع خاص لأنه مصاب بطيف التوحد. حين نلتقيه للمرة الأولى، يحرك قلوبنا ومخاوفنا في آنٍ واحد، ويكون ذلك في المركز التجاري الواسع حيث سيضيع من أمه حياة (أمل عرفة)، لأنه سار خلف صورة مطبوعة لكارتون الملك الأسد، في غفلة منها. وبالتوازي مع ضياع الصغير، الذي لا يحسن التعبير عن نفسه، نلاحق شذرات من ماضي معلم الرياضيات مؤنس (عبد المنعم عمايري)، الحادث الذي تعرّض له وأودى بحياة ابنه، الذي كان في سن جود حاليا، مما يعطينا فكرة عن اهتمامه الصادق بالصغير الهشّ.
تمتد حلقات "أغمض عينيك" إلى ثلاثين حلقة، ويزخر بخطوط درامية عديدة ومتشابكة. من قصة حياة التي تواجه الحياة مع صغيرها المختلف كأم وحيدة وبلا دعم عائلي، مما يدفعها إلى التورط في أعمال جانبية داخل معمل الأدوية الذي تشتغل فيه، أعمال غير قانونية تماما لكنها تؤمِّن لها دخلا إضافيا تحتاج إليه كي يكمل الصغير تأهيله في حضانة متخصصة. ثمة أيضا قصة المعلمة الرقيقة سلام في الحضانة نفسها (حلا رجب)، وعلاقتها المتوترة بأمها المضطربة وفاء موصلي. على المنوال نفسه، نشاهد أنماطا من الصراع الخفي وسوء الفهم المتبادل بين الأجيال في المسلسل.
وسط هذا البناء، يتميز "أغمض عينيك" كثيرا في تقديمه لشخصية جود، ويولي صُناعه حساسية بالغة لحركات الصبي المعبِّرة عن معاناته في إدراك ما يحدث حوله من مشكلات، وهو الذي يحتاج إلى درجة عالية من الأمان، كي لا يتأثر نموه النفسي. يقرِّبنا العمل من عالم جود، يُرينا إلى ما يلفت انتباهه، إلى نوع طعامه المفضل، إلى ارتباطه بهذه السلحفاة الصغيرة في بيت مؤنس، مما سيبعث له ببعض الدفء في الأيام الصعبة. حتى إنه يدفعنا الى التساؤل عن الحضور المُفتقَد للأطفال ونموهم النفسي وتأثرهم بحيوات الكبار، وتأثيرهم عليها، في الدرامات العربية، وهي التي لا ترى في الطفل إلا انعكاسا للدراما بين الأبطال. هنا لا بد أيضا أن نوجه تحية الى فريق العمل الذي يبدو جليا حجم الجهد الذي بذله لطمأنة الطفل الذي أدّى الدور زيد بيروتي، بحيث يخرج أداؤه بكل هذه العفوية.
"مليحة": فلسطين في قلب الشاشة
لا ينسى المُشاهِد العربي المسلسل السوري المهم، "التغريبة الفلسطينية"، من تأليف وليد سيف وإخراج حاتم علي، والذي أرّخ للحق الفلسطيني في الأرض والذاكرة، الذي تعمل إسرائيل منذ زمن طويل على طمسه واستلابه. قدّم "التغريبة" صورة جديدة عمّا حدث في القضية الفلسطينية للأجيال التي كانت آنذاك، أي عهد عرض المسلسل. لكن ذلك كان عام 2004. واليوم مع تزايد العدوان الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية، والإصرار على إعدام كل سردية لا تمنح الصهاينة الحق الأوحد في الوجود، تتزايد الحاجة إلى إعادة زيارة الماضي، وترتيب الحاضر، للأجيال الجديدة التي تطالع كل يوم البشاعات التي ترتكبها إسرائيل في غزة، ولا تستطيع أن تفهم تماما جذور القضية.
ربما لم يحدث من قبل أن تصدى مسلسل مصري لعمل هذا التأريخ الدرامي، إن جاز التعبير، وهذا ما يُحسب لمسلسل "مليحة"، على الرغم من أنه ليس الهم الأساسي للمسلسل الذي بدأ عرضه في النصف الثاني من شهر رمضان، من تأليف رشا عزت النجار، وإخراج عمرو عرفة. وعلى الرغم من الطابع الميلودرامي الحزين للعمل، الذي لن يكون بحال أكثر إيلاما من مشاهد الواقع.
يدور المسلسل حول تغريبة، الشابة الفلسطينية مليحة وأسرتها، بعد أن غادروا منذ سنوات فلسطين، تاركين خلفهم بيوتهم وذاكرتهم، إلى ليبيا حيث استقروا، البلد الذي يعاني بدوره من قلاقل سياسية وعدم استقرار. تحاول مؤلفة العمل أن تتحرك بين الجنود المصريين الذين يعملون على الحدود، وبين أسرهم التي تعيش في القاهرة. كذلك تروي جانبا مما يحدث على الجبهة الليبية، التي ستغادرها مليحة مرة ثانية مع من تبقى من أسرتها هذه المرة إلى القاهرة، على خلفية معارك وتناحراتت سياسية يدفع أثمانها الأبرياء.
وفيما يسعى التيتر إلى تبسيط تاريخ القضية الفلسطينية إلى مستوى الأطفال، عبر الحدوتة التي التي يحكيها سامي مغاوري، بطريقة الفويس أوفر، وبلهجة أقرب للفلسطينية إلى حفيده الصغير، الذي لا يتوقف عن طرح أسئلة منطقية عما كان يمكن أن يحدث كي لا تؤول الأمور إلى ما آلت إليه. نشعر بدرجة من التعارض بين مستويات الخطاب، بين التيتر الموجَّه تقريبا إلى الصغار، والسرد الحالي الذي يخاطب الكبار، ويتبنى وجهة نظر الدولة المصرية ورؤيتها للكثير من الأحداث السياسية على المستوى العربي، ربما يضعِف إلى حد ما من تأثير العمل.
غير أن الحرص على مشاهد المودة العائلية، سواء بين الأسر المصرية أو في الأسرة الفلسطينية، مع صِدق أداء الممثلين وفي مقدمهم: سيرين خاس ومحمد دياب وميرفت أمين وحنان سليمان؛ يقود إلى خلق رابطة عاطفية مع المُشاهد. بالإضافة إلى عنصر التشويق الذي يحافظ عليه العمل، في تنقله بين شخصيات عدة وأمكنة وأزمنة. بينما تبقى بالطبع مليحة الشابة كذاكرة حيّة، رمزا ومركزا للعمل.