"جودر" يعيد الألق التلفزيوني إلى حكايات "ألف ليلة وليلة"https://www.majalla.com/node/314391/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%AC%D9%88%D8%AF%D8%B1-%D9%8A%D8%B9%D9%8A%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%84%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%84%D9%81%D8%B2%D9%8A%D9%88%D9%86%D9%8A-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%AD%D9%83%D8%A7%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A3%D9%84%D9%81-%D9%84%D9%8A%D9%84%D8%A9-%D9%88%D9%84%D9%8A%D9%84%D8%A9
عرف الإنسان الحكاية مذ اهتدى إلى اللغة، فراح ينسجها من تفاصيل حياته اليومية، ويرويها شفاهيا، وما إن اتسعت مداركه إلى مرحلة التدوين، حتى ظهر أثر الحوار الدائر بين الثقافات على صورة نسخ مختلفة من تلك الحكايات. وتعتبر حكايات "ألف ليلة وليلة" من أشهر الأمثلة على ذلك، حيث أدى انتقالها بين عدد من الثقافات إلى وجود عدد من النسخ المختلفة/المتشابهة في الشرقين الأقصى والأدنى كما في بلاد العجم. وكان للنسخة المصرية نكهتها الخاصة من هذه الحكايات لتحلّ منذ عقود ضيفا الى المائدة الرمضانية، حتى باتت جزءا من النسيج اليومي خلال هذا الشهر.
وبعد غياب يتجاوز 9 سنوات، تعود "الليالي" من جديد إلى شاشة الدراما المصرية في عمل من تأليف السيناريست أنور عبد المغيث وإخراج إسلام خيري تحت عنوان "جودر"، أحد أبطال حكايات "ألف ليلة وليلة"، يجسّده الممثل ياسر جلال بجانب شخصية الملك شهريار، وبمصاحبة عدد من النجوم المصريين والعرب من بينهم ياسمين رئيس، ونور اللبنانية، وعبد العزيز مخيون، وورشوان توفيق.
نال المسلسل منذ بداية عرضه في النصف الثاني من رمضان استحسانا واسعا ربما افتقدناه منذ زمن في المساحة الفنية العربية، خصوصا في ظل الأزمة التي أصابت الكتابة الدرامية في مقتل، وربما كان الخيال، "أرض الله الواسعة" كما تصفه شهرزاد لملكها، أحد سبل التشافي، لا سيما أن هناك أجيالا تربّت على تلك "الليالي" المصرية، سواء داخل مصر أو عربيا، إذاعيا أو على الشاشة.
ظهرت "الليالي" للمرة الأولى دراميا في منتصف خمسينات القرن الماضي، عبر أثير الإذاعة المصرية
ظهرت "الليالي" للمرة الأولى دراميا في منتصف خمسينات القرن الماضي، عبر أثير الإذاعة المصرية، وكانت من تأليف الشاعر طاهر أبو فاشا وإخراج محمد محمود شعبان. وأدّت دور شهرزاد الفنانة زوزو نبيل لتصبح نبرة صوتها المميزة علامة من علامات "الليالي"، "بلغني أيها الملك السعيد... ذو الرأي الرشيد...". ولا شك أن للحكايات المتداخلة سحرا لا يقاوم، ألهم الفن على اختلاف وسائله. نذكر منها في مجال الأدب رواية "القصر المسحور" (1936)، تأليف مشترك لـطه حسين وتوفيق الحكيم، وفيها نتابع الكاتبين بصفتهما الحقيقية، من خلال رحلة محاكمة يخوضها الحكيم أمام شهرزاد ومعاونيها عما اقترفه في كتابة مسرحيته الشهيرة عنها، فيما يقوم طه حسين بدور المدافع تارة أو المؤيد لشهرزاد في أوقات أخرى.
أما في السينما، فغلبت الفكاهة على الحكي، واتخذت أفلام من "ألف ليلة وليلة" عنوانا أساسيا لها مثل فيلم خلاجه توجو مزراحي (1941) بطولة علي الكسار، وآخر أخرجه حسن الإمام (1964) بطولة شادية وفريد شوقي.
في منتصف الثمانينات ظهرت "الليالي" للمرة الأولى على شاشة التلفزيون من تأليف الكاتب أحمد بهجت وإخراج عبد العزيز السكري، ليسجل حسين فهمي ونجلاء فتحي أول تجسيد للثنائي "شهريار/شهرزاد" على شاشة الدراما.
هكذا توالت الأعمال، وتغلغلت في النسيج المصري الى درجة محاولة استدرارها في فترات الانقطاع بإعادة مشاهدة نتاج الأعوام الماضية، وفي مقدمها "ليالي" الفنانة الاستعراضية شيريهان التي حققت انتشارا جماهيريا على المستوى العربي.
اعتمدت هذه الأعمال على خدع ومؤثرات بصرية بدائية وفق المتاح حينها، حتى أنها كانت مسار سخرية في بعض الأحيان، فهناك عدد من المشاهدين لم يقتنعوا بمشاهد مرسومة باليد لقصر الملك أو قلعة الجان وما شابه. يختلف الأمر كليا الآن بالطبع حيث اهتدى صناع الدراما إلى تحويل تلك الرسومات إلى واقع ملموس من طريق الطفرة الكبيرة التي أحدثتها الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي. من هنا، مثلت أعمال الغرافيك والخدع والمؤثرات عنصرا مهما في نجاح الصورة البصرية على المستويين الدرامي والفني، مما يجعل منها بطلا رئيسا ضمن مجموعة البطولات الجماعية لمسلسل "جودر".
يلجأ المسلسل إلى بداية رقمية لا تتعمد البهرجة تُظهر المدينة التاريخية بقبابها وقصورها وأبراجها العالية، وأعلى أحد هذه الأبراج نتابع الملك شهريار أثناء مبارزة تدريبية بالسيف مع أحد اتباعه، وكان أسمر البشرة، مما ذكره بواقعة الخيانة الزوجية التي تعرض لها قديما وكانت سببا في ما أقدم عليه لاحقا في الاقتصاص من كل بنات حواء. ظهر ذلك من خلال لقطات سريعة وخاطفة كـفلاش باك داخل عقل شهريار لم تتعدّ ثلاث دقائق، وهو ما سيتكرر لاحقا في عدد من المشاهد المرنة توضح تفصيلا ما أو تزيد في جزء من الحكاية.
لا يقف الإبهار هنا عند المستوى البصري أو التقني، بل نتلمسه أيضا في تتابع الحدث الدرامي
نجح المسلسل في توريط المُشاهد، مع أن الحكاية معروفة سلفا لعدد كبير من قراء "الليالي"، إلا أن ثمة خلطة كبيرة ومبهرة في الوقت ذاته كانت بمثابة عقد اتفاق مبرم بين المخرج والمؤلف من جهة وبين الجمهور المنتظر للحكايات، على وعد بقضاء وقت شيق وممتع وغير مرتجل أو عشوائي كما يحدث في عدد كبير من المسلسلات. لا يقف الإبهار هنا عند المستوى البصري أو التقني، بل نتلمسه أيضا في تتابع الحدث الدرامي، بداية من الظهور الأول ودلالته للشخصيات، حيث يُقدّم شهريار كثور هائج متعطش للدماء، وتكتمل الصورة حين تدخل شهرزاد (ياسمين رئيس) وهي ترقص في فستان أحمر وشال باللون نفسه، تحركه نحو شهريار، كمن تتعمد تهييج ثور في حلبة، دون خشية البطش أو الموت دليلا على جسارتها.
نسوية الحكاية
في كتابه "العين والإبرة" (1996)، يقارن عبد الفتاح كيليطو بين حكاية قتل شهريار للفتيات وبين أسطورة قديمة ذكرها هيرودوت عن ملك من مصر أصيب بالعمى، "إلا أن أحد العرافة أخبره بأنه قد يسترد بصره إذا ما غسل عينيه ببول امرأة لم يسبق لها الارتباط برجل آخر غير زوجها". الغريب أن الملك يختار زوجته لإجراء التجربة، وحين يتبين له –ماضيها- يلجأ إلى اختبار سيدات البلدة واحدة من وراء الأخرى حتى يهتدي في النهاية إلى ذات البول البكر، فيأمر بحرق جميع النساء السابقات، وهو ما يتشابه كثيرا مع الخط الدرامي الرئيسي لـ"اليالي"، وإن لم تحتوِ حكاية هيرودوت على رقم زمني محدد.
على الرغم من أن بطل الحكاية الأم ومحركها الرئيس هو شهريار، تبقى البطولة الحقيقية من نصيب شهرزاد التي اتخذت من الحكاية وسيلة للبقاء وتهذيب الملك أو بالأحرى علاجه مما علق في ذهنه من أوهام عن المرأة. تعطي شهرزاد المرأة الحضور الأبرز، على الرغم من أن جل الحكايات أبطالها رجال، لكن المرأة تظهر في الوقت المناسب لحل العقدة التي صعدتها امرأة أخرى. وهو ما يتناغم مع الإطار الأساسي الذي انبثقت منه كل الحكايات الثانوية. وسرعان ما يتعلق المروي عليه بالراوي بما يجعل تغييبه يكتسب للمرة الأولى حضورا كابوسيا، حين يرى في ما يرى النائم، مسرور السياف يجرجر شهرزاد إلى المذبح لتنفيذ حكم الاعدام المؤجل، خصوصا وهو يعرف مسبقا أن بقاءها على قيد الحياة مرتبط بالحكاية، إلا أنه يؤكد لها أن ما ينتظرها في آخر الحكاية لن يكون سوى مسرور مهما طالت الأحداث.
حين وضع الموسيقار الروسي كورساكوف سمفونيته الشهيرة التي استلهمت "ألف ليلة وليلة" قبل ما يزيد على 130عاما، اختار أن يعنونها بـ"شهرزاد"، لتصبح منذ ذلك الحين الثيمة اللحنية الأكثر ارتباطا بعوالم السحر داخل حكاياتها. يبدأ كورساكوف مقطوعته الموسيقية بثلاثة مستويات درامية، نستمع في مقدمتها الى أصوات آلات نفخ خشنة وتحذيرية في الوقت ذاته، تنتهي بصوت الأبواق في متتالية قصيرة تشبه الاستراحة في أوقات الهدنة، وهو ما يمكن تطبيقه على شهريار نفسه وشعبه الملعون بذبح بناته، حتى تظهر شهرزاد في صورة عزف منفرد لآلة الكمان، ناعم ورشيق ويدعو إلى الطمأنينة.
على وتيرة مشابهة، يخوض الموسيقار شادي مؤنس مغامرة لوضع الموسيقى التصويرية والألحان للمسلسل، خالطا بين عدد من الثيمات الموسيقية المختلفة الثقافات، لكنها تعتمد على الآلات الشرقية وفق منهج أوركسترالي متعدّد، ولعل الشارة اللحنية الرئيسة للمسلسل كانت من أذكى الثيمات المستخدمة، إذ يستدعي فيها الملحن نغما من تراث الموسيقى الهندية، مهد "الليالي" الأول، كما قيل في الأثر.
فضاء درامي مغاير
أثار المسلسل المصري، "الحشاشين"، الكثير من الاستياء –ولا يزال- منذ عرض الحلقات الأولى، لما تضمنه من أخطاء تاريخية لا مجال لذكرها هنا، علاوة على استخدامه لغة معاصرة لا تتناسب مع الفترة الزمنية للأحداث، وهو ما يهمنا مع مسلسل "جودر" الذي لم يعتمد فحسب على لغة معاصرة، بل استعان بمستويات الحوار في المناطق الشعبية وايفيهات المناطق العشوائية من قبيل "الحرير بيغير والمحطوطة مشروطة" وهكذا، وهي مفردات تتداولها الشخصيات، بداية من الملك وحتى الغفير. ومن الملاحظ أن هذه الاستدعاءات الشعبية لم تقف عند حد الحوار بل تخطته مازجة بين الخيال والبيئة الشعبية، حتى أن عددا كبيرا من المشاهد خصوصا في السوق وتفاصيله مثل محل عصير القصب، تشعر وكأنك تتابع مشهدا معاصرا من حي شعبي في السيدة زينب أو الحسين.
ينجح مخرج "جودر" في توظيف ذلك الإبهار البصري وفق منظومة متكاملة من العناصر
ربما تشابهت أزمة الكتابة التاريخية مع إشكالية شهيرة في مجال الترجمة في المفاضلة بين النقل الحرفي الأمين ورحابة ترجمة الثقافة المنقول عنها قبل الكلمة أحيانا، أو الاستعانة بمفردات شبيهة تكون بمثابة المعادل الثقافي للكلمة، أو الفكرة، وهو ما تفوق فيه مسلسل "جودر" على مسلسل "الحشاشين" على مستويين: أولا على مستوى الكتابة، حيث اعتمد السيناريست عبد الرحيم كمال في "الحشاشين" على تعشيق الحكاية الأسطورية بأحداث وشخصيات متخيلة وفق رؤية مؤدلجة مسبقا، مما أفقد العمل الكثير من الصدق في الخيال، وهو ما أكده منهج المخرج بيتر ميمي في احتفائه المبالغ فيه بالغرافيكس والإبهار البصري، في حين نجد مخرج "جودر" إسلام خيري ينجح في توظيف ذلك الإبهار البصري وفق منظومة متكاملة من العناصر، من تمثيل وتصوير وديكور ومكياج ومونتاج. لقد لعب المونتاج دورا مهما في ضبط إيقاع المسلسل وكان محركا رئيسا في عدد كبير من مشاهد الإثارة والتشويق. ولم يكن لهذه الصورة أن تظهر وتكتمل من غير سيناريو جيد ومختلف، لعل أكثر ما نجح فيه السيناريست أنور عبد المغيث هو اختزال الحكايات والأحداث، فنراه يعطي البطولة الأولى للرصيد القديم للحكايات لدى المشاهد أو المتلقي، ناسجا من حكايته المقتطعة "لقطة عامة" بلغة السينما لهذه العوالم.
كما يتخفف السيناريو كثيرا من أحمال الحكاية الأصلية، ويكتفي بالخط الدرامي لصراع جودر مع أخويه من جهة وقوى الظلام "الشمعيين" أو أبناء شميعة، ورئيستهم شواهي (نور) من جهة أخرى. هنا تجدر الإشادة بالأداء المختلف للفنانة نور عن تجاربها السابقة، وكذلك اجتهاد الممثل ياسر جلال على الرغم من إصراره على تقمص شخصية رشدي أباظة التي في ما يبدو، تلازمه كشبح.
هناك أيضا عدد كبير من الوجوه الشابة المتميزة، برع المخرج في توظيفها بشكل جيد، مرورا بالأدوار الشرفية، وفي المقدمة يأتي الاستبدال السريع للممثلة أيتن عامر قامت بدور أم جودر في صغره، إلا أن توزيع أدوار الممثلين الرجال لم يبدُ مقنعا، حيث يذخر المسلسل بعدد من البطولات النسائية الموازية في حين تأتي جميع البطولات الموازية للبطل من نجوم الصف الثاني أو الوجوه الجديدة.