سبعون خريفا قد تحتاج اليها غزة لتعود إلى إيقاعها ما قبل حرب 7 أكتوبر/تشرين الأول، حين كانت سجنا مفتوحا، يكتنفه شيء من الأمن والأمان واقتصاد مثقل بالحرمان.
هذه هي الخلاصة التي توصل إليها تقرير لـ"أونكتاد" في يناير/كانون الثاني 2024 واصفا الواقع الاقتصادي في غزة من جراء الغزو الدامي والمستمر منذ ستة أشهر، تحول فيها القطاع إلى أكوام من الركام والحطام البشري قد يكون عصيا على الترميم في هذه المرحلة. هي المرة الأولى التي يجتمع فيها أكثر من 85 في المئة من سكان غزة، أكثر المناطق اكتظاظا بالسكان في العالم، في أرض أكثر ضيقا في رفح لا تتجاوز مساحتها 64 كيلومترا مربعا، مهددة بالقصف والإبادة في أي لحظة، وهي المرة الأولى تدمر فيها المستشفيات أمام أعين العالم ويقتل من فيها أو يعتقل، وهي المرة الأولى يطارد فيها الجوعى اللاهثون وراء كسرة خبز، ويطلق عليهم النار إن أخطأهم صندوق إعانة ما من دولة أجنبية ما ولم يردهم قتلى.
حرب ليس لها مثيل في الإجرام تبثها شاشات الكوكب وتشهد عليها مراكز الأمم المتحدة والمسؤولين الكبار فيها. مئات مليارات الدولارات، إن توافرت، لن تعيد أهلها وأرضها وتاريخها وذكرياتها الى ما كانت عليه، بعد تدمير عجلة الحياة والانتاج فيها عن بكرة أبيها، كما ولن تداوى الفواجع والمآسي بحفنة طحين من هنا أو بمبضع جراح من هناك.
شهدت غزة محطات عديدة من الهمجية الإسرائيلية والصراعات المزمنة منذ عام 2008، حولتها على مدى نحو عقدين من الزمن، إلى منطقة كوارث إنسانية يعتمد 80 في المئة من سكانها على المساعدات الدولية. وكانت أشد تلك المحطات عدوان عام 2014، قبل أن تتحول ذكراه إلى "نزهة"، مقارنة بالحرب الأخيرة المدمرة التي سوّت القطاع بالأرض، وأوقعت حتى كتابة هذه الكلمات حصيلة غير مسبوقة من القتلى تخطت 38 ألف قتيل و71 ألف جريح وفقا للمرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان (أنظر الإنفوغراف أدناه)، أي أكثر مما حصدته حرب أوكرانيا منذ عامين حتى اليوم بين قتيل وجريح، أو أربعة أضعاف عدد القتلى الإجمالي في كل العمليات العسكرية الإسرائيلية السابقة على القطاع منذ عام 2007، معظمهم من النساء والأطفال. هذا عدا التهجير الجماعي غير المسبوق من شمال القطاع إلى جنوبه.
الاقتصاد المستحيل بلا أهله
يستحيل الحديث عن اقتصاد في أرض قتل فيها هذا العدد المهول من الأطفال والنساء والأطباء والممرضين، الصحافيين والموظفين والعمال والتجار والبنائين والشباب والشابات. هؤلاء كلهم، عماد أي اقتصاد، قتلوا عن سابق تصور وتصميم، وبقصد قتل عصب الاقتصاد والحياة.
إذا ما قيض لمن سينجو من أهل غزة، العودة والصمود، فإن المسافة التي سيقطعها ما تبقى من الشعب النازف طويلة، وطويلة جدا، وشاقة، ومفخخة بالمصالح السياسية والاقتصادية، وهو سيدفع ثمنها على أقساط، والآتي قد يكون أعظم، خصوصا في ظل السعي الحثيث لـ"اغتيال" وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، "الأونروا"، وانهاء دورها التاريخي ومعانيه ومفاعيله السياسية.
ماذا حصدت غزة بعد "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر؟
باختصار، تسونامي جرف البنى التحتية والمباني السكنية والأخضر واليابس، فتبخرت رؤوس الأموال ومقومات الإنتاج والزراعة، ودمرت المراكز التجارية والمصانع، وحرقت المحاصيل والأشجار المثمرة. طحن القصف الإسرائيلي الهمجي كل شيء؛ مرافق التعليم ومراكز الرعاية الصحية والمستشفيات والعيادات (أنظر الإنفوغراف) والبنى التحتية من شبكات الكهرباء والإنترنت وقنوات الري وأنظمة ضخ المياه والصرف الصحي، مع ما يعني ذلك من انعدام للنظافة وانتشار للأمراض ومن أخطار كبيرة على الصحة العامة.
لا معنى للأرقام في غزة
قدر خبراء لدى "المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان" في مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أي بعد أقل من شهر على بدء الحرب الواسعة النطاق على غزة، أن ما أسقط على القطاع من متفجرات يوازي تأثير قنبلتين ذريتين، وقد يكون أقوى نظراً للتطورات التكنولوجية التي تؤثر على فاعلية القنابل. فباعتراف إسرائيل، قصفت غزة بـأكثر من 25 ألف طن من المتفجرات بعدد قياسي من القنابل يتجاوز 10 كيلوغرامات من المتفجرات لكل فرد، وهو ما يفوق وزن القنبلتين الذريتين اللتين أسقطتهما الولايات المتحدة على هيروشيما وناغازاكي في اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية في أغسطس/آب 1945، والذي قدر بنحو 15 ألف طن من المتفجرات. علما أن مساحة هيروشيما تبلغ 900 كيلومتر مربع، في حين أن مساحة غزة لا تتجاوز 360 كيلومترا مربعا.
منذ فرض الحصار على غزة عام 2007، تراجعت مستويات المعيشة فيها وفقا لـ"أونكتاد"، حتى بات نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في القطاع يوازي 28 في المئة فقط نظيره في الضفة الغربية في عام 2022، أي ما قيمته 1,257 دولارا، وتراجع إلى نحو 930 دولارا فقط في 2023 بسبب الحرب. وتراجعت حصة الناتج المحلي لغزة المنخفضة أصلا من الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني إلى 14 في المئة فقط عام 2023 لتبلغ نحو ملياري دولار في نهاية العام، من 31 في المئة في عام 2006، قبل الحصار، إلى 17 في المئة في عام 2022.
وبحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، تسببت الضربة القاسية التي تلقاها الاقتصاد الفلسطيني بخسارة الناتج المحلي الإجمالي لغزة ما لا يقل عن 25 في المئة من قيمته عام 2023، وهي بالطبع كارثة ممتدة هذه السنة، إذ لن يتمكن القطاع من استئناف أي نشاط اقتصادي طبيعي مباشرة بعد وقف الحرب. ولن يكون التعافي سهلا بعد كل هذا الدمار الهائل، وفظائع الأشهر الستة المنصرمة التي أوصلت الاقتصاد والمجتمع إلى قاع سحيق ما دون نقطة الصفر.