الانتخابات المحلية في تركيا وعودة المسألة الكردية إلى المشهدhttps://www.majalla.com/node/314381/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%AE%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AD%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%AA%D8%B1%D9%83%D9%8A%D8%A7-%D9%88%D8%B9%D9%88%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%A3%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B1%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B4%D9%87%D8%AF
بعد سنوات من التغييب، عادت القضية الكردية في تركيا لتشغل المشهد العام والنقاش السياسي في البلاد، عقب الانتخابات البلدية التي جرت أواخر شهر مارس/آذار المنصرم، والتي أحرز فيها "حزب ديمقراطية الشعوب" المؤيد للأكراد "نصرا انتخابيا" في كل المناطق والولايات ذات الغالبية الكردية جنوب شرقي البلاد، إلى جانب مساهمته في اكتساح "حزب الشعب الجمهوري" المعارض لمعظم بلديات المدن الكبرى غربي البلاد، بفضل تصويت المجتمعات الكردية المؤيدة له والمقيمة هناك لصالح حزب المعارضة، وطبعا بعد الأحداث الدراماتيكية التي شهدتها مدينة فآن ذات الغالبية الكردية، بعدما سحب المجلس الانتخابي المحلي الفوز من مرشح "الحزب الكردي" ومنحه لمنافسه المنتمي لـ"حزب العدالة والتنمية"، لكن المجلس المركزي للانتخابات أعاد المنصب للمرشح الكردي الفائر مرة أخرى، عقب احتجاجات عارمة شهدتها المدينة طوال يومين، لم يغادر فيهما المحتجون الأكراد شوارع "ثاني المدن ذات الغالبية الكردية" من حيث السكان، بعد مدينة ديار بكر، إلا بعد فرض السلطات لحظر التجوال في المدينة والبلدات الرئيسة في الولاية.
تثبيت تمثيل الأكراد
الانتخابات الحالية جاءت بعد أقل من عام على إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية في تركيا، والتي حقق فيها الرئيس رجب طيب أردوغان و"حزب العدالة والتنمية"، وحليفه "حزب الحركة القومية" المتطرف فوزا كاسحا على الرغم من تحالف كل قوى المعارضة، وعقدها لصفقة سياسية مع الحزب المؤيد لحقوق الأكراد.
مذّاك، صار الرئيس أردوغان في كل خطاباته العامة يدّعي تمثيل حزبه لمختلف المناطق والحساسيات الأهلية في البلاد، بما في ذلك أبناء القومية الكردية، متهما "حزب ديمقراطية الشعوب" بالارتباط والتبعية لـ"حزب العمال الكردستاني"، وعدم تمثيله إلا لأقلية من الأكراد في تركيا، والحصول على أصواتهم بـ"الضغوط والترهيب"، حسب رأيه.
حسب نتائج الانتخابات، صار "حزب ديمقراطية الشعوب" مسيطرا على البلديات الكبرى/المركزية لعشر ولايات
الدعاية الانتخابية لـ"حزب العدالة والتنمية" طوال الشهور الماضية كانت تعد بهزيمة "حزب ديمقراطية الشعوب" في كل ولايات جنوب شرقي البلاد، تحديدا في الولايات والمدن الكبيرة، ديار بكر وفآن وماردين. لكن النتائج أتت على عكس توقعاته تماما.
حسب النتائج الرسمية، فاز "الحزب الكردي" بأغلبية عشر ولايات كاملة جنوب شرقي البلاد، ولم يخسر المنافسة إلا في ولايتين: بتليس، التي خسر فيها مرشح الحزب، محمد نذير كارباش، بفارق 198 صوتا فقط أمام مرشح "حزب العدالة والتنمية"، نصرالله تانغلي. وفي ولاية شرناخ الجبلية على حدود العراق، حيث قالت الأوساط الكردية إن "حزب العدالة والتنمية" دفع الآلاف من أفراد الجيش والشرطة للتصويت لصالحه. إلى جانب ذلك، رفع الحزب من نسبة التصويت العام لصالحه عن آخر انتخابات بلدية جرت عام 2019، بقرابة 10 في المئة، محققا زيادة عددية تجاوزت 225 ألف صوت، على الرغم من عدم احتساب الكثير من أصواته في الولايات التي لم يقدم فيها مرشحين، دعما لـ"حزب الشعب الجمهوري" المعارض.
حسب نتائج الانتخابات، صار "حزب ديمقراطية الشعوب" المؤيد للأكراد مسيطرا على البلديات الكبرى/المركزية لعشر ولايات، تضم ثلاثين مدينة يزيد سكانها عن مئة ألف نسمة، ثلاثة منها مصنفة كولايات كبرى على مستوى البلاد وتضم 54 منطقة حضرية.
تغييب سياسي للمسألة الكردية
القيادي في "حزب ديمقراطية الشعوب"، شعبان أورزام، شرح في حديث إلى "المجلة" المجريات والأسباب التي دفعت القواعد الاجتماعية الكردية للتصويت لصالح حزبه، مجددة واقع تمثيله لتطلعاتهم السياسية والخدمية والتنموية، قائلا: "المسألة بدأت أواخر عام 2019. فبعد ستة أشهر من فوز الحزب بمعظم الولايات ذات الغالبية الكردية وقتذاك، عزل وزير الداخلية سليمان صويلو رؤساء البلديات الكردية عن مناصبهم، بتهمة وجود صلة لهم بحزب العمال الكردستاني، معينا (أوصياء) من حزب العدالة والتنمية على تلك البلديات، واستمرت الأمور على ذلك المنوال طوال سنوات، رغم فشل القضاء في إثبات تلك التهمة. فما فعله حزب العدالة والتنمية هو إبطال نتائج الانتخابات التي فاز بها الحزب الكردي، فقط لأن برلمانيي هذا الحزب لم يمنحوا أصواتهم لصالح طلب تفويض بغزو منطقة عفرين الكردية شمال شرقي سوريا حينها. منذ ذلك الوقت، ثمة شعور يمزج بين المرارة والحنق، تراكمه غالبية واضحة من هذه القواعد الاجتماعية الكردية، مصرة على إعادة الكرة مرة أخرى، وتأكيد هويتها السياسية من خلال هذا الحزب".
قوى المعارضة التي تحالف معها "حزب ديمقراطية الشعوب" لم تقدم أي خطط لحل المسألة الكردية
يضيف أورزام في حديثه مع "المجلة": "دفعت السلطة المركزية ببعض الأموال الزائدة لصالح البلديات التي استولت عليها، بغية إشعار المواطنين بأهمية وضرورة تابعية البلديات للحزب الحاكم. لكن الأوصياء كانوا يتصرفون بسلوك ينم عن فوقية وسلطة فائضة، باعتبارهم معينين من الجهاز المركزي الحاكم للدولة، لا منتخبين من القواعد الاجتماعية. لأجل ذلك، كانوا يهمشون وينكرون أي خطاب سياسي أو مبادرات ثقافية أو مناسبات رمزية أو مساهمات تعليمية تتعلق بالأكراد وتطلعاتهم القومية والسياسية. على العكس تماما، كانوا يتبعون نزعة تطابق بين الأحزاب السياسية المطالبة بالحقوق الكردية وحزب العمال الكردستاني والصراع المسلح الذي يدور في البلاد منذ أربعين عاما، معززين خطابهم بالكثير من الشك والتخوين بحق المعارضين الأكراد للسلطة المركزية. كل ذلك شكل تحديا نفسيا وسياسيا للقواعد الشعبية، التي صارت تعرف جيدا أن القضية الأساسية بالنسبة لهم سياسية، وليست تنموية وإدارية، كما توحي دعاية السلطة الحاكمة".
لكن المراقبين يضيفون عاملين تفصيليين إلى أسباب حصول "حزب ديمقراطية الشعوب" على الغالبية المطلقة من أصوات الأكراد في هذه الانتخابات. فقوى المعارضة التي تحالف "الحزب الكردي" معها خلال الانتخابات الماضية، لم تتقدم بأي خطط، أو حتى خطابات، في سياق حل المسألة الكردية في البلاد، بل لم تعترف بأهمية الصوت الكردي في التوازن العام مع التحالف الحاكم. على العكس تماما، شيدت تحالفا مع أكثر التيارات القومية تشددا في البلاد، مثل حزبي "الجيد"، و"النصر".
التفصيل الآخر كان متعلقا بسياسة "الحل العسكري فقط هو الحل" التي اتبعها "حزب العدالة والتنمية" تجاه المسألة الكردية. فبالإضافة إلى الحروب والهجمات والحملات العسكرية التي صار الجيش التركي يشنها على المقاتلين الأكراد في كل حدب، في الداخل وفي كل من سوريا والعراق، راح ينكر صراحة وجود قضية كردية في تركيا أساسا، مغلقا الباب أمام العودة إلى طاولة التفاوض السياسي بشأن وقف الحرب، وصار يخلق كل المعوقات أمام إمكانية حل المسألة الكردية عبر بعض المسارات غير الرسمية، مثل منح المزيد من الحقوق للسلطات البلدية ورعاية بعض النشاطات المدنية والثقافية والرمزية الكردية. دفع ذلك الناخبين الأكراد للإصرار على تذكير الحزب الحاكم بوجود ممثل سياسي لقضيتهم.
مساحة حذرة للفاعلية
الفوز في مناطق جنوب شرقي البلاد للحزب المؤيد للحقوق الكردية ترافق مع فوز عام لـ"حزب الشعب الجمهوري" المعارض في عموم مناطق البلاد. فلأول مرة صارت أصواته وحده تتجاوز ما حصل عليه "حزب العدالة والتنمية". وبالإضافة إلى الفوز في المدن الرئيسة الثلاث الكبرى، إسطنبول وأنقرة وأزمير، فإن المعارضة تمددت إلى مناطق أواسط الأناضول، المعقل التقليدي لـ"العدالة والتنمية"، وصار لها "زعماء وطنيون"، يستطيعون المنافسة على منصب رئاسة الجمهورية خلال انتخابات عام 2028، رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، ونظيره في العاصمة أنقرة منصور يفاش، ومعهما الزعيم الجديد لـ"حزب الشعب الجمهوري" أوزغور أوزيل.
أوساط "حزب ديمقراطية الشعوب" تحذر من الإطاحة بكل الزخم الذي عاد به الحزب المؤيد للأكراد إلى المشهد السياسي
حسب تلك الترتيبات، فإن الاستقطاب والتوازن بين القوتين السياسيتين الرئيستين في البلاد سيخلقان وزنا إضافيا لـ"الحزب الكردي" في حساباتهما، وسيدفعهما لإدخاله ضمن ترتيبات سياساتهما المستقبلية، خصوصا وأن أي انتخابات قادمة ستكون بين الأجيال الجديدة من أعضاء الحزبين.
وفي السياق عينه، كان واضحا أن "حزب ديمقراطية الشعوب" قدم مبادرات تجاه "حزب العدالة والتنمية" والرئيس أردوغان خلال الشهور الماضية. فالقيادي المخضرم في الحزب، أحمد ترك، صار يعبر صراحة عن تسليم حزبه بزعامة أردوغان الاستثنائية في البلاد، مصنفا إياه كجهة وحيدة قادرة على طرح مبادرة تنهي العنف والمواجهة المسلحة في المسألة الكردية. كذلك قدم الحزب قياديين معتدلين خلال الحملة الانتخابية، مثل: ليلى زانا، وجنكيز تشاندار.
لكن أوساط "الحزب الكردي" تحذر من مسارين قد يطيحان بكل الزخم الذي عاد به الحزب المؤيد للأكراد إلى المشهد السياسي في البلاد. فـ"حزب العدالة والتنمية" قد يعود مجددا لعزل رؤساء البلديات الكردية عن مناصبهم، وتعيين أوصياء من قِبله عليها. فذلك السلوك يطرب القواعد الشعبية القومية التي لم تصوت لصالحه خلال الانتخابات الأخيرة، ويعيد المساواة في الحكم المحلي بينه وبين "حزب الشعب الجمهوري" المعارض. وهو مسار أشار إليه الرئيس أردوغان أثناء الخطاب الذي ألقاه بعد صدور نتائج الانتخابات بساعات قليلة. لكن حدوث ذلك قد يدفع القواعد الكردية للمواجهة في كل المدن التركية، مثلما فعلت في مدينة فآن خلال الأيام الماضية، وهو ما سيخلق نزعة قومية تركية مناهضة للحزب الكردي على مستوى البلاد.
المسار الآخر يتعلق بإمكانية تنفيذ تركيا لعملية عسكرية موسعة خلال فصل الصيف القادم، تستهدف "حزب العمال الكردستاني" في كل مناطق وجوده، في تركيا وسوريا والعراق، وإرفاق ذلك بإعلان حالة الطوارئ في المناطق ذات الغالبية الكردية جنوب شرقي البلاد، وتاليا الإطاحة بسلطة الحكم المحلي لـ"الحزب الكردي" وحقه في الحضور وتقديم الخدمات لناخبيه.