عَلَّمت حربُ غزة أميركا الكثير مما لم تتوقع أن تكتشفه بخصوص سياستها نحو إسرائيل وفلسطين. بعد شن "حماس" عمليتها الجريئة "طوفان الأقصى" بضحاياها الكثيرين من الإسرائيليين مدنيين وعسكريين. كان رد الفعل الأميركي المباشر، رسميا وشعبيا، هو التضامن الكامل مع إسرائيل. فبعد يومين من هجوم "حماس" وقف الرئيس جو بايدن في البيت الأبيض، ليشرح للأميركيين معنى عملية "حماس" وموقف الولايات المتحدة منها: "في هذه اللحظة، علينا أن نكون واضحين تماما: نقف مع إسرائيل. وسنتأكد من أن لديها ما تحتاجه لتعتني بمواطنيها ولتدافع عن نفسها وترد على هذا الهجوم. ليس هناك تبرير للإرهاب، ليس هناك عذر له".
كان لافتا أن رئيس الولايات المتحدة يخاطب الشعب الأميركي بخصوص عملية مسلحة خارج أميركا والأخيرة ليست طرفا فيها وتناولَ هذا الأمر كأنه شأن داخلي ومهم للولايات المتحدة. لم يكن هذا إلا نتيجة منطقية للنظر أميركيا لـ"طوفان الأقصى" بوصفه النسخة الإسرائيلية للحادي عشر من سبتمبر/أيلول الأميركي: حركة إرهابية تستهدف أناسا عاديين، غالبيتهم من المدنيين وتوقع خسائر هائلة فيهم وسط عجز مؤقت يصيب الدولة إزاء هذا الاستهداف. اعتُبر نجاح "حماس" في السابع من أكتوبر انتصارا خاطفا ومُروعا، لكنه، ليس إلا يوما واحدا وشاذا من أيام كثيرة، ويجب أن تتبعه خسارة دائمة للطرف البادئ، حتى إن تطلب إيقاع هذه الخسارة به الكثير من الزمن والجهد وإعادة ترتيب الأشياء.
هكذا حَمَلت زيارة الرئيس بايدن إلى إسرائيل، بعد نحو عشرة أيام من وقوع الهجوم، روحَ الحادي عشر من سبتمبر، باستثنائية الرد الإسرائيلي الذي تبعه حجما وشراسة والإيمان الأميركي بشرعية هذا الرد، وضرورة دعمه حتى مع القلق من العواقب المحتملة لسقوط ضحايا مدنيين. كانت هذه باختصار فحوى رسالة بايدن التي ألقاها أثناء هذه الزيارة، مخاطبا الإسرائيليين: "ينبغي إحقاق العدل ومعاقبة المعتدي. لكني أحذر: في الوقت الذي تشعرون فيه بالغضب، عليكم أن لا تسمحوا له أن يهيمن عليكم. بعد الحادي عشر من سبتمبر، شعرنا بالغضب الشديد في الولايات المتحدة، وفيما كنا نسعى لإحقاق العدل بمعاقبة المعتدي ونجحنا في هذا، ارتكبنا أخطاء أيضا".
هذا التحذير من ارتكاب الأخطاء الذي بدا حينها هامشا ضائعا في كلام بايدن الكثير عن التعاطف مع إسرائيل، ودعم أميركا لها، كبرَ سريعا حتى أصبح الهامش يوازي المتن، وأحيانا يزيد عليه. بدأ التحول الأميركي في مطلع شهر نوفمبر/تشرين الثاني، أي بعد أقل من ثلاثة أسابيع من بدء الرد الإسرائيلي وتعلق بالإحراج المحلي والدولي الذي واجهته أميركا بوصفها الراعية الأولى والتقليدية لإسرائيل.
أثارَ مثلاً القصف الجوي في مخيم جباليا نهاية أكتوبر/تشرين الأول انزعاجا شخصيا شديدا لدى بايدن. استهدف هذا القصف الإسرائيلي، الذي نُفذ بقنابل أميركية ضخمة زعيما عسكريا في "حماس" تتهمه إسرائيل بالمشاركة في التخطيط لهجوم السابع من أكتوبر. سقط في هذا القصف أيضا عشرات المدنيين الفلسطينيين، فيما دُفن عدد أكبر منهم تحت الأرض. أزعج الإدارة الأميركية كثيرا غياب التناظر هذا بين القيمة العسكرية للهدف والخسائر المدنية المحتملة ليتحول هذا الانزعاج من تسريبات صحافية إلى خطاب علني ناقد. جاء الانتقاد الأول في 12 ديسمبر/كانون الأول، على لسان بايدن نفسه الذي أشار إلى أن الإسرائيليين "بدأوا يخسرون الدعم [الأميركي والأوروبي] بسبب القصف العشوائي. لقد قال لي [رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين] نتنياهو- وأنا صريح معكم تماما في هذا: حسنا، ألم تقصفوا ألمانيا قصفا عشوائيا وشاملا؟ ألم تستخدموا القنبلة الذرية؟ مات في هذا الكثير من المدنيين. رددتُ عليه: نعم، وهذا هو السبب وراء إنشاء مؤسسات دولية كثيرة بعد الحرب العالمية الثانية لضمان أن لا يحدث هذا مرة أخرى. ولم يحدث هذا مرة أخرى. لا ترتكبوا الأخطاء التي ارتكبناها بعد الحادي عشر من سبتمبر".