فلسطينيون يواجهون الحرب بـ"الكوميكس": خيمة داخل غرفةhttps://www.majalla.com/node/314331/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A%D9%88%D9%86-%D9%8A%D9%88%D8%A7%D8%AC%D9%87%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D8%A8%D9%80%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%88%D9%85%D9%8A%D9%83%D8%B3-%D8%AE%D9%8A%D9%85%D8%A9-%D8%AF%D8%A7%D8%AE%D9%84-%D8%BA%D8%B1%D9%81%D8%A9
غزة: لطالما سعى الفنانون الفلسطينيون إلى نقل مأساة شعبهم، وتجربتهم المريرة مع الاحتلال والحروب، من خلال أدوات فنية مختلفة. من ضمن تلك المساعي، قدم العديد من الفنانين خلال الحرب الدائرة رحاها على قطاع غزة، قصصا قصيرة مصورة، أي ما يسمى بفن "الكوميكس"، لتشكل هذه القصص نمطا تعبيريا متجددا، يلجأ إليه بعض الشباب الفلسطيني، عبر دمج الأدوات التكنولوجية الحداثية بالرسم، أو من خلال الرسم باليد.
اشتعلت مخيلة الفنان الفلسطيني بالكثير من المشاعر والأفكار، خلال الحرب المدمرة على غزة، وعلى الرغم من هول أحداث هذه الحرب، فإن مخيلة الفن والأدب تبقى روحا تحاكي الشعوب لتخرج بصوت إبداعي مجدّد، يختزل المشهد المأسوي عبر الصورة وما ترسله من معان من خلال تكوين العناصر التراكبية.
انطلق الفنانون الشباب، عبر السوشال ميديا ومختلف المنصات الفنية، يخاطبون من خلال أعمال "الكوميكس" العالم أجمع، ناقلين الصوت الإنساني الخاص الذي يترجم قصة الشعب الفلسطيني وآلام نزوحه وتهجيره القسري، وقتله ودماره وجوعه، خلال الحرب، عبر تسلسل فني ورسومات متشابكة في الفكرة والمعنى والتعليق اللغوي في بعض الأحيان، وهنا تقوم فكرة "الكوميكس" ومشاعرها النابضة.
يخاطب الفنانون الشباب من خلال أعمال "الكوميكس" العالم أجمع، ناقلين الصوت الإنساني الخاص الذي يترجم قصة الشعب الفلسطيني
نجد القصة المصورة عند خالد جرادة بمثابة عملية مسحية للذهن والمشاعر، بهدف تقطير مادة الألم، ووضعها من خلال مشاهد إيحائية مؤثرة تحاكي الذهن وتستنفر الخيال.
ويمكن لحظ كثافة المشاعر في هذه المشهدية الفنية المتجسدة باللون والخطوط الغائرة، على مساحة قصته، "خيمة داخل المنزل". فما بين تناقضات المشاعر، يبرز النص المحاكي للذهن، إذ يلعب جرادة على التناقضات، حيث الأمان الذي يرمز إليه من خلال السرير، والغرفة، والمأوى، المكان الصعب الذي لطالما حاول الفلسطيني الحصول عليه في ظل وجود احتلال يطحن كل بذرة للحياة، ويحيلها غبارا.
على النقيض منها، يضع جرادة فكرة الخوف كجنين داخل بطن الأمان، فتأتي الخيمة داخل الغرفة لتجسد صرخة الفلسطيني على أرضه التي لطالما تمسك بها، لكن المطاردة المتواصلة من قبل المحتل، تجعله في كثير من المحطات التاريخية، يقيم الخيمة داخل المنزل الأم، وطنه، وهي رمز التهجير والنزوح والألم والجوع وتهافت الحياة. ولا يتوقف جرادة عن إشعار عين المتلقي بصندوق خانق في كل مشهد، مجسدا بهذه الرمزية الحصار الخانق الذي يعيشه سكان غزة منذ عقود.
تتعدد معاني التوتر الجسدي في القصة، حيث أن إغماضة العين، وصمّ الأذنين، وتغطية الوجه بالكتاب، تجتمع لتلقي بظلالها على مساحة الرسم، معبرة عن الرعب الذي يحياه الجسد الفلسطيني، من هول الحرب. فلحظة القصف والنار، هي لحظة سينمائية جدا، اعتدنا عليها شديدة الأثر في هوليوود، لكنها غير مستوعبة بالمطلق في الواقع.
فيما يشكل خيط النظر ما بين المنزل وفم السمكة، تجميعة من الأفكار يمكن تخيلها على شكل كرة متدحرجة، كلما تقدمت قليلا، تجمع المزيد من الأشواك، هكذا هي حياة الفلسطيني في نزوحه المحبِط غصبا من بيته، وسيره بالمشقة الكبيرة، نحو فم كبير، يجمع داخله كل أشكال العتمة، أشكال الموت. هذا الفم المفتوح أمام الجسد، هو المجهول الذي لا يعرف الفلسطيني كيف ينجو منه بعد نصف سنة من مطاردة الموت له، ويتيح كادر الوصف الفني هنا للذاكرة العودة الى التراث الديني، حيث يتبادر إلى الذهن، لحظة دخول النبي يونس فم الحوت، وما ناله من تيه وتشريد داخل الباطن المظلم.
صوت في خلفية الصورة
كما نجد في القصة المصورة لدى جرادة البعد الصوتي، حيث يقتص من جزئيات الحياة المعقدة التي يحياها الفلسطينيون، أبعادا يمكن سماع أصواتها من خلال الخطوط والألوان وطريقة تركيب القصة، فيعلو في النص الخفي داخل القصة صوت الجرح والألم المرافق لكل حركات الحياة الفلسطينية، كما يبرز فراغ البيوت من أصحابها بعد التهجير القسري منها، ويلمّح جرادة إلى استغاثة الشعب الفلسطيني بالعالم من أجل رفع الظلم عنه، من خلال صوت الخيمة الصارخ وجسد الإنسان المنهك، داخل الغرفة المشتعلة بالتفاصيل.
وبطريقة تدمج ما بين الصورة واللغة، تصنع الفنانة آلاء الجعبري قصتها المصورة، "الزنانة"، لتنقل من طريق الفكرة الأحادية، رسالة فنية واضحة، فيها من الاعتراض ما لا يمكن مواربته، ومن طريق قصتها، كذلك، تلقي نظرة على الواقع الفلسطيني المأسوي خلال الحرب.
تمرر الجعبري مجموعة أفكار مختلفة، في رسومات وتعليقات، في كل منها أسلوبية مختلفة، عبر الرسومات والخطوط والألوان، حسبما تتطلب مزاجية المشهد وعناصره. فنجدها تتخلى غالبا عن الألوان، عند تناولها ضيق الغزيين بصوت الطائرة الإسرائيلية المسيرة، التي تحلق على مدار اللحظة في سماء قطاع غزة، خلال الحرب، وفي أوقات كثيرة، قبلها.
تأتي الخيمة داخل الغرفة لتجسد صرخة الفلسطيني على أرضه التي لطالما تمسك بها
تضع الفنانة الفلسطينية رأس إنسان تكسوه علامات البؤس والضجر، والعنصر الآخر الذي يصنع الثقل، ويقيم الحوارية داخل الالتقاطة، هو الطائرة المسيرة، ومن خلال الجملة أو حتى من دونها، يمكن الوصول إلى ديناميكية حركة الأفكار داخل القصة، أما غياب الألوان فلربما أرادت الجعبري أن تخبرنا من خلاله بأن الزنانة تلغي لون السماء، وتخرم العقل، بمداهمته عبر صوت تشبهه الفنانة بهجوم مئة ألف ذبابة على الرأس، في اللحظة نفسها.
دمج مشاهد
أما الفنانة بيان أبو نحلة فتضع ثقل قصتها، "وداعا غزة"، في أوراق مدمجة، لربما خلطتها بشكل متعمد، لتجسيد حالة قطاع غزة، بمجرد بدء الحرب الشرسة على كل مكان فيه. فنجد الحمل الثقيل من المفروشات فوق سقف سيارة الأجرة، إجابة عن سؤال للغريب القادم، ماذا يحدث في غزة؟ فصورة السيارة المحملة بالفِراش، تلخص حالة الجري السريع الذي صاحب لحظة التهديد الأولى من الطيران الإسرائيلي للسكان في غزة. والسيارة هنا رمز الابتعاد عن المنزل، والفِراش انتقال طويل ولربما أبدي. أما الحركة الذكية من أبو نحلة عبر قصاصة أخرى، فتكسر خط سير الصورة الأخرى، لتعبّر عن لحظة انقلاب في الجهة الأخرى، لحظة الوصول والابتعاد عن الحالة الاعتيادية. فرأس الانسان المقلوب، يحمل إسقاطا حول المصير الانعكاسي في كل شيء، وهو ما وصلت إليه الحياة في غزة منذ بدء الحرب، عبر التهجير والتدمير والقتل الوحشي والتفكك الاجتماعي وفقدان الأرض والمنازل، وكل أشكال الحياة التقليدية. الجسد المقلوب داخل اللقطة الفنية، هو عقل مقلوب وصوت مقلوب، وحياة مقلوبة، كأن أحدهم أراد ان يرتاح، فاختار الجلوس على كرسي قوائمه الأربع موجهة إلى أعلى.
في صورة أخرى تظهر أبو نحلة حال سكان غزة الذين غادروها مجبرين، مشتتين، محملين بالقهر والصدمة. تختلط ملامحهم في الصورة، كما في الحياة، كلهم يشبه بعضهم بعضها، كلهم بالهيئة نفسها من العذاب وانعدام الاتجاه، وما يلوح على وجوههم إنما هو فقط أسئلة حول المعنى والمصير وقيمة الإنسان في حياة لا يستطيع خلالها أن يقرر مصيره بذاته. خلفية تلك الوجوه، جملة مشطوبة، وجملة أخرى تحل محلها، كلتاهما نقيض الأخرى، لكن جملة goodbye gaza، تعد في هذه الوضعية تعريفا آخر لمشاعر النزوح، بل والفراق الطويل الذي يراود النازحين، كما حدث مع أجدادهم في نكبة 1948.