لم تكتفِ روسيا بالإفادة من الحرب الإسرائيلية على غزة، ومن الانشغال الغربي في الشرق الأوسط بتأمين الدعم التسليحي لتل أبيب للرد على عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها "حماس"، من أجل إحداث تقدم ميداني في أوكرانيا. وها هي "تقتحم" البحر الأحمر، أحد مسارح العمليات الحربية المتحدرة من الحرب الإسرائيلية "الحمساوية". فهي لن تترك حل معضلة ضمان أمن الملاحة الدولية فيه لأميركا ودول الغرب وحدهما، بعد تشكيل تحالف غربي بقيادة أميركية، وقوة بحرية أوروبية مستقلة عنه، لاعتراض صواريخ ومسيرات الحوثيين ضد السفن العابرة لباب المندب.هذا فضلا عن وجود البحرية الهندية بين المحيط الهندي والبحر الأحمر لهذا الغرض.
تستثمر موسكو موقعها بالتحالف مع طهران، الداعمة لقصف الحوثيين للسفن التجارية "المتجهة" إلى إسرائيل وكذلك الأميركية والبريطانية الحربية والتجارية، من أجل أن يكون لها دورها في أمن البحر الأحمر وفي التعاطي مع الآثار العسكرية والاقتصادية للأزمة التي سببها تحكم الحوثيين في مضيق باب المندب. وهي تتكئ على تطور علاقاتها السياسية والاقتصادية مع دول الخليج العربي، ولاسيما المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، فدفعت في 28 مارس/آذار الماضي بسفينتين تابعتين لأسطول المحيط الهادئ الروسي، إلى البحر الأحمر. سبق دخول فرقاطة وطراد روسيين، مناورات في خليج عدن لتدريبات "على سيناريوهات مختلفة لمكافحة نشاط عدو مفترض"، كما جاء في بيان قيادته.
في وقت يعتقد البعض أن الوجود الروسي في البحر الأحمر أحد أبواب عودة الحوار والتعاون بين موسكو وواشنطن على "تنظيم المرور" في بقعة مائية حيوية للاقتصاد العالمي، عندما تسنح ظروف جدية لوقف الحرب في غزة، فإن الوجود الروسي في البحر الأحمر لا ينفصل عن عقيدة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالذهاب إلى حيث يجب، في مواجهة القطبية الأحادية للولايات المتحدة الأميركية.
تستثمر موسكو تحالفها مع إيران، الداعمة للحوثيين، من أجل أن يكون لها دور في أمن البحر الأحمر
ومع أن شنّ الحوثيين "الحرب" على السفن التي تحمل بضائع لإسرائيل، تحت شعار "إسناد غزة" الذي ترفعه طهران و"محور الممانعة"، حول الأنظار جزئيا عن المجازر الإسرائيلية في القطاع، فإن روسيا ليست متضررة من اضطراب وارتفاع كلفة سلاسل الإمداد في البحر الأحمر. فقد اتفقت هي والصين، مع الحوثيين، على عدم تعرضهم للسفن التجارية الروسية والصينية. هذا فضلا عن أن السفن تنقل نفطها وغازها وسائر صادراتها على الرغم من العقوبات، من البحر الأسود إلى دول أوروبية، مسارها آمن، وإلى دول آسيوية عبر بحر اليابان.
تنص العقيدة الجديدة للقوات البحرية الروسية التي أطلقها بوتين في يوليو/تموز 2022 على أن "محاولة الولايات المتحدة السيطرة على محيطات العالم تمثل تهديدا للأمن القومي الروسي"، وتحرّك حلف شمال الأطلسي (ناتو) باتجاه الحدود الروسية. ومع أنه أصدرها في إطار حرب أوكرانيا وحماية نفوذ موسكو في البحر الأسود ووجودها في شبه جزيرة القرم إثر تعرض الأسطول الروسي لهجمات أوكرانية بالمسيرات، فإن توسع هذا الأسطول نحو البحر الأحمر له أبعاد آنية وبعيدة المدى متصلة برؤية الدب الروسي للنفوذ والدور في الشرق الأوسط. والكرملين يسعى منذ سنوات إلى أن تكون له قاعدة بحرية في تلك المنطقة شبيهة بالتي استحوذ عليها في طرطوس في سوريا على ضفاف المتوسط.
مطلع الشهر الماضي، أكد وزير الخارجية السوداني علي الصادق علي، أن السلطات السودانية ليس لديها اعتراضات جوهرية على إنشاء قاعدة بحرية روسية في البلاد على شواطئ البحر الأحمر. كانت المفاوضات لإنشائها جرت قبل اندلاع الحرب السودانية، وتنتظر موسكو انتهاءها لاستئناف التفاوض بشأنها.
كما أن لدى موسكو مشروعا طرحه وزير الخارجية سيرغي لافروف منذ اندلاع الحرب في اليمن وسيطرة الحوثيين على باب المندب، لحفظ أمن البحر الأحمر، والحؤول دون الهيمنة الغربية والأميركية فيه. الغرض الرئيس على الأمد البعيد، إنشاء منظمة للأمن والتعاون في الخليج، تشمل الدول الإقليمية بما فيها إيران وروسيا والصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والهند، وغيرها من الأطراف الدولية المعنية بصفة مراقبين أو أعضاء منتسبين.
عرضت الخارجية الروسية وثيقة بهذا الصدد منذ 2016، على ممثلي البعثات الدبلوماسية للدول العربية وإيران وتركيا، والدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن والاتحاد الأوروبي والجامعة العربية ودول مجموعة "بريكس". ومما تنص عليه: تبادل الإخطارات بصورة مسبقة حول إجراء التدريبات وطلعات الطيران العسكري، وتبادل المراقبين، وعدم نشر قوات لدول خارج المنطقة على أساس دائم على أراضي دول الخليج، وتبادل المعلومات بشأن القوات المسلحة وشراء الأسلحة، إضافة إلى ضرورة إطلاق حوار تدريجي حول تقليص الوجود العسكري الأجنبي بالمنطقة. وبذلك تلاحق موسكو النفوذ الأميركي أينما تمكنها الظروف، على طريق محاولة فرض وجودها في أزمات العالم المضطرب لإسقاط الأحادية القطبية الأميركية.
مطلع الشهر الماضي أكد وزير الخارجية السوداني عدم وجود اعتراضات جوهرية لبلاده على إنشاء قاعدة بحرية روسية على البحر الأحمر
وقد سبق لموسكو أن استنكرت تعرض الحوثيين للسفن التجارية منذ أواخر 2023، ومررت- مطلع يناير/كانون الثاني- قرار مجلس الأمن بإدانة هجماتهم، بامتناعها (مع الصين والجزائر وموزمبيق)عن التصويت لمصلحته، خشية استغلال أميركا له لتعزيز وجودها العسكري. هكذا بررت دخول المياه المضطربة.
ثمة وجه آخر لكل ذلك في إطار علاقة موسكو بطهران وهو رسالتها إليها وإلى سائر الدول، بأنها قادرة على ضبط التوسع الإيراني. ولهذا حديث آخر.