لقد عُدّ أبو تمام خارجا على عمود الشعر بطريقته الفريدة في ابتكار الصوَر وفي استعمال أساليب البيان على نحو بدا ابتعادا كبيرا عن السائد والمألوف. لقد كان أبو تمام في النصف الأول من القرن الرابع الهجري محورا لمعركة نقدية بين مؤيدين وخصوم له. وذلك لأنه هزّ التقاليد هزّا عنيفا. وهو الذي تهكم على المعتقدات البالية وعلى الشعوذات الشائعة، وخصوصا في قصيدته الشهيرة "فتح عمورية" التي يبدأ فيها بالسخرية من المنجمين وكتبهم، وذلك في الشطر الأول من القصيدة : "السيف أصدقُ إنباء من الكتبِ".
مع المتنبي، صار العقل محورا من محاور التفكير في معنى الوجود، وكذلك في ما يترتب على هذا الوجود من سعادة أو شقاء، وهذا واضح في قوله:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ
لقد تعالى المتنبي عن الخوض في مشكلات عقائدية أو مذهبية. وهذا الخوض هو ما سيفعله المعرّي. لم يشأ المتنبي أن يخوض في ما بين العقل والنقل من تباينات أو تقاطعات، فمعركته - كما تصوّرها - أكبر من ذلك. هي معركة حيال الزمن أو الدهر. و"العاقل" أو "الفطِن" هو الذي يرميه الزمن أو يصيبه، بل أصحاب الفِطنة هم أغراض لدى الزمن:
أفاضلُ الناس أغراضٌ لدى الزمنِ
يخلو من الهمّ أخلاهمْ من الفِطَنِ
ولكنّ ما سبق لا يتعارض مع تمجيد المتنبي للعقل واعتباره فضيلة الفضائل والطريق إلى إثبات التفوّق، التفوّق الذي يمكننا عدُّه عنوانا لمشروع المتنبي في الشعر، وربما في غيره.
العقلانية الكبرى في تاريخنا الشعري يمثلها - في نظري - أبو العلاء المعري. فهو لم يترك مسألة من المسائل الفلسفية والدينية والمذهبية إلا تصدى لها في شعره، وخصوصا في لزومياته، التي أرادها مجالا لمناقشة قضايا الحياة والموت والنبوة والإيمان والتديّن والصلاح والفساد... إلخ. وكل ذلك من خلال الاستماع والاحتكام إلى العقل. يقول مخاطبا كلّ فرد من أفراد المجتمع:
أيها الغِرُّ قد خُصِصْتَ بعقلٍ
فاسْألنْهُ فكلُّ عقلٍ نبيُّ
أو يقول معرّضا بالأئمة من الخطباء الواعظين، وبالناس الذين يُقبلون على الإصغاء إليهم:
يرتجي الناسُ أن يقوم إمامٌ
ناطقٌ في الكتيبة الخرساءِ
كذبَ الظنُّ لا إمامَ سوى العقلِ
مشيرا في صبْحه والمساءِ
لقد دعا المعري إلى ثقافة العقل، مواجها أو مجادلا حرّاس ثقافة النقل، التي وجدها متمثّلة بالتديّن (الأعمى).
إثنانِ أهلُ الأرض ذو عقلٍ بلا
دينٍ وآخَرُ ديّنٌ لا عقلَ لَهْ
ثقافة العقل التي يدعو إليها المعري تنطلق من التفكير والظن والحدس... وانعدام اليقين أو التيقّن:
أمّا اليقينُ فلا يقينَ وإنما
أقصى اجتهادي أن أظنَّ وأحدسا
ولهذا، أفصح المعري عن شكه في جميع الفلسفات والأديان، رابطا بين التعصب الديني والفساد الذي ترامى إليه الناس:
قد ترامتْ إلى الفساد البرايا
واستوتْ في الضلالة الأديانُ
أنا أعمى فكيف أهدي إلى المنهج
والناسُ كلّهمْ عميانُ
ويذهب إلى أبعد من ذلك، فيقول إن البشر جُبلوا على الفساد، فهم فاسدون في الأصل، أو بالأحرى خُلقوا فاسدين:
وجِبِلّةُ الناس الفسادُ فضلَّ من
يسمو بحكمته إلى تهذيبِها