مع كل حدث وقضية تبرز فيها مشاهير السوشيال ميديا، والفاشينستا، وربما حتى بعض من يحسبون على الوسط الإعلامي أو الفني. وعندما تتحول تلك القضايا إلى حديث الجمهور في وسائل التواصل الاجتماعي يتصدى لها بعض الناشطين في "فيسبوك"، و"X" ("تويتر" سابقا) رافعين لواء انتقاد تردي حالة المجتمع، ولا يترددون أبدا في تكرار مقولة: "نظام التفاهة".
توصيف الكثير من الأحداث والمظاهر اليومية المرتبطة بنماذج صنعت وروجت نجوميتها وسائل التواصل الاجتماعي، على أنه نتاج لنظام التفاهة، فيه الكثير من التبسيط والتسطيح؛ لأنه أصبح وصفة جاهزة للنقد.
المفارقة في اللجوء إلى توصيف "نظام التفاهة" هي انتقائية المثقف لظواهر هي نتاج التردي في مجال تفاصيل حياته اليومية، لكنه يلجأ إلى نقد الأعراض وترك البيئة المنتجة لها، التي تعد السبب الرئيس في ظهور طبقة من الطفيليين على كافة المستويات والأصعدة السياسية والاجتماعية وحتى الثقافية.
تخيل أن حضور إحدى الراقصات الشعبيات في مباراة لكرة القدم، وانتشار صور ومقاطع فيديو التفاف مجموعة من الشباب المراهقين حولها، تحولت إلى حادثة يستحضر فيها كثير من المدونين في وسائل التواصل الاجتماعي كتاب آلان دونو "نظام التفاهة". وكأنما هذه الظاهرة هي دليل على الخراب الذي وصلنا إليه بترميز "التافهين".
بلدنا تحول من تمجيد الدكتاتور والقائد الأوحد، إلى مراكز وجوه سلطوية وزعامات متعددة
لا يريد كثير من دعاة النخبوية والثقافة تقييم المواقف التي تتماهى مع النخب الحاكمة التي أوصلت المجتمع إلى حالة "ترميز التافهين". وهي بالتأكيد لا تعد حالة شاذة في بيئة سياسية أنتجت قيما اجتماعية تخالف تماما منظومة القيم والأعراف والتقاليد التي يفترض أن يكون عليها المجتمع السليم. فعندما يتم استقبال شخصيات سياسية متورطة في فضائح فساد وقتل، ويحضر مجالسهم "المثقف" و"النخبوي"، ويستقبلهم في مجالس العزاء والأفراح والكثير من النشاطات الثقافية. فهو لا يقل سوءا عن المراهق الذي يحتفي بالتقاط الصور التذكارية مع مشاهير السوشيال ميديا، والتي يعدها "المثقف الرسالي" رموز "نظام التفاهة".
كل التردي والخراب يرتهن بالسياسة والسياسيين. ففي مجتمعاتنا التي تتحكم فيها السياسة في كل تفاصيل حياتنا اليومية، لا يمكن أن نبرئ السياسيين من حالة تردي الأوضاع. فالسياسة في بلدنا ما إن دخلت شيئا إلا أفسدته. وعندما يتماهى "المثقف" مع السياسي في التركيز على النتيجة وتجاهل الأسباب، نكون أمام نخبوي تبريري، شريك في صناعة الخراب.
وعندما تتواطأ بعض النخب الثقافية مع المنظومة السلطوية في حرف الأنظار عن القضايا التي تكون السبب في الانحطاط الثقافي والسياسي والاجتماعي، وتركز على ظواهر محددة واعتبارها هي التي تهدد المجتمع وثقافته. نكون هنا أمام تخادم غير معلن، غايته الرئيسة صرف الأنظار عن منظومة الحكم التي أنتجت كل مظاهر الخراب والفوضى.
مشكلة بعض دعاة النخبوية في بلدنا الذي تحول من تمجيد الدكتاتور والقائد الأوحد، إلى مراكز وجوه سلطوية وزعامات متعددة. أنهم الآن أصبحوا يشبهون الإله الإغريقي جانوس، لديه وجهان: وجه يتجاهر بالحداثة والمدنية والليبرالية والحقوق والحريات. ووجه ثان، يدافع عن المذهب الديني ويتبنى مظلوميته، ويرفع شعاراته في مواجهة الآخر المختلف معه في الطائفة.
نظام التفاهة يتمظهر من خلال السياسة والاقتصاد والمؤسسات الأكاديمية والثقافة تقودها سلطة خالصة مُطلقة من أي عنان
هذه "النخب الثقافية" هي نتاج لمنظومة حكم لا علاقة لها بالدكتاتورية ولا الديمقراطية، كونها تشابه كائنات طفيلية تعتاش وتتغذى على وجود جسد سياسي مليء بالأزمات والخراب. ولذلك هي تجد في البيئة السياسية المتناحرة فرصة كي تقدم نفسها باعتبارها مدافعة عن "الدولة" وعن "المجتمع". لكنها في الحقيقة تدافع عن نخب وصلت إلى الحكم عن طريق الفساد والسلاح المنفلت واستغلال العناوين والرمزيات الدينية، وهي بحاجة إلى "دعاة النخبوية" لتجميل صورتها أمام جمهورها السياسي والطائفي.
المثقف الانتقائي، عندما ينتقد نظام التفاهة ويحاول التركيز على تمظهراتهِ ويتجنب البيئة السياسية التي أنتجته، يشبه كثيرا الطبيب المختص بعمليات التجميل. فهو يدرك تماما أن تلك العمليات وظيفتها إخفاء العيوب وليس محوها تماما. ومن ثم "المثقف الانتقائي" يحاول إخفاء عيوب منظومة الحكم التي أنتجت كل هذه التشوهات في جسد المجتمع، من خلال التركيز فقط على التجاعيد التي أنتجتها سنوات تولى فيها السلطة مجموعة من الرجالات لا علاقة لهم بالسياسة ولا بالدولة، وإنما يجمعهم مشروع السيطرة على السلطة لأنها الطريق للثروة والنفوذ.
فنحن محكومون من قبل قوى سياسية تجمع بين التفاهة وحكم اللصوص
كتاب "نظام التفاهة" من تأليف آلان دونو (Alain Deneault) أستاذ الفلسفة والعلوم السياسية في جامعة كيبيك- كندا. وهو أكاديمي معروف بالتصدي للرأسمالية المتوحشة ومحاربتها. ومصطلح "نظام التفاهة"، كما يشرحه المؤلف، يفيد "المرحلة المتوسطة خلال فعل ينطوي على ما هو أكثر من المتوسط: إنه يعني هذه الدرجة الوسطى بعد رفعها إلى مصاف السلطة".
مترجمة الكتاب الدكتورة مشاعل عبد العزيز الهاجري، وهي أستاذة القانون الخاص في جامعة الكويت، التي وضحت أن الميديوقراطية (Mediocaracy) كلمة جديدة على القاموس نسبيا، فلم تظهر إلا حوالي عام 1825، وهي تعني النظام الاجتماعي الذي تكون الطبقة المُسيطرة فيه هي طبقة الأشخاص التافهين، أو الذي تتمّ فيه مكافأة التفاهة والرداءة عوضا عن الجدية والجودة... وبشكل عام "نظام التفاهة مجرد مقاربة تتعلق بوصف نظام اجتماعي يراد نصبه كنموذج، كما هو الحال مع الديمقراطية والتكنوقراطية مثلا".
الكاتب والروائي مرتضى كزار كتب في صفحته على "فيسبوك"، عن كتاب "نظام التفاهة"، وكثرة تكرار هذا العنوان: "الكتاب مغرٍ، لكنه عنوان تسويقي للنسخة العربية لا يشبه الأصل وقد نزل زلالا باردا على قلوب من يحبون الاستسهال والتثاقف في نقد الظواهر في مواقع التواصل. الكتاب لا يتحدث عن الفاشينستات وتفاهة المؤثرين والمؤثرات، هؤلاء نتاج السلطة وحاجتها للفساد لا العكس، ليسوا نتاج الحريات. الحريات هجينة ومنتقاة على مقاس الأغراض السياسية، ولا علاقة للأمر بآخر الزمان وانحطاط الحال".
وعلى العكس من انتقائية بعض المدونين في وسائل التواصل الاجتماعي، الذين يختصرون نظام التفاهة في ظواهر وشخصيات السوشيال ميديا، فإن كتاب آلان دونو تميز باستحضار الكثير من الأمثلة والشواهد في أطروحاته التي تؤكد أن نظام التفاهة يتمظهر من خلال السياسة والاقتصاد والمؤسسات الأكاديمية والثقافة. والتي باتت محكومة من قبل ما يصفه بـ"اللعبة" التي تقودها "سلطة خالصة مُطلقة من أي عنان، وذلك من خلال نظام تنافسيّ يتجسّد بكل من الرأسمالية وسلطة المافيا. فالاثنتان يمكن أن يغرسا أنظمة تشمل القوانين ومواثيق الشرف. واللاعبون ذوو النفوذ في موقع يسمح لهم بالإشراف على "اللعبة". ولا قواعد مكتوبة لهذه اللعبة، ولكنها تتمثل- أو ترد أو تُستشعر- في انتماء إلى كيان كبير ما، تُستبعد القِيَم فيه من الاعتبار، فيُختزل النشاط المتعلق به إلى مجرد حسابات مصالح متعلقة بالربح والخسارة.
ويعتقد دونو أن نظام السوق هو السائد والمتحكم الآن، وكل ذلك يتم بعنوان "الحوكمة" التي تحاول إفراغ مفهوم السياسية من قيم مرتبطة بأفكار الحق والواجب والعمل والالتزام والصالح العام، واستبدالها بمفاهيم الإدارة والشراكة والخصخصة وتحقيق الربح، ومن ثم تتحول الدولة إلى محض شركة تجارية، فمنطق الحوكمة الصرف، يقرّر أن "الكل يجب أن يتكيّف فيصبح تابعا لمنهج الأعمال التجارية".
ما يتجاهله "النخبوي المثقف" أو المدون في وسائل التواصل الاجتماعي عند الاستعانة بكتاب "نظام التفاهة"، عن قصد أو جهل، أن مؤلف الكتاب يوجه نقدا قاسيا إلى ما بات يعرف بالنخبة أو التكنوقراط الذين يصفهم بـ"الخبراء المنقذون"، ويعتبر مهمتهم تثيبت دعائم النظام الرأسمالي المحكوم من قبل الأقلية المسيطرة على الاقتصاد والسياسة، إذ "لمن هم في مواقع السلطة فإن الإنسان التافه هو الشخص المعتاد الذي يستطيعون نقل تعليماتهم من خلاله، بما يسمح بترسيخ نظامهم". ويقول: "كلما تراجعت الأوليغارشية إلى عاداتها السيئة (الفساد، التدليس، التفاهة) سارع "الخبراء" الذين يتقاضون رواتبهم منها إلى إنقاذها".
حتى المشهد الثقافي فرض نظام التفاهة سيطرته عليه- حسب وجهة نظر دونو. وأصبح "يقدم نفسه كجهاز رسمي ورمزي، يقود الناس المرؤوسين والمُسيطر عليهم من قبل النُّظُم الليبرالية إلى تحويل طاقاتهم الروحية باتجاه دعم هيكل اجتماعي مصمم ومنفّذ من قبل الطّبقة المسيطِرة".
صحيح أننا ليس لدينا نظام رأسمالي، ولكن لدينا طبقة حاكمة تمارس سلوك الرأسمالية نفسه في مواقع السلطة.
يفترض دونو أن الديمقراطية لم تعد مهددة، بل تم تنفيذ جميع التهديدات فعليا، ومن ثم "لنسمِ هذا النظام بلوتوكراسي (حكم اللصوص)، أوليغارشية، طغياني برلماني، شمولية مالية"، فهو لم يعد ديمقراطيا. وهنا تحديدا، يمكن القول بوجود عنصر مشترك بين أنظمتنا السياسية ونظام التفاهة، فعلى الرغم من أن المجتمعات والأنظمة العربية تعيش على هامش الرأسمالية في أنظمة سياسية واقتصادية هجينة تجمع بين الرأسمالية والاشتراكية وبين الديمقراطية والدكتاتورية، لكن يبدو أن الكثير من مظاهر نظام التفاهة قد تسربت إلى مجتمعاتنا، والفضل يعود إلى العولمة.
ويبدو أن أزمتنا أكثر تعقيدا، فنحن محكومون من قبل قوى سياسية تجمع بين التفاهة والكليبتوكراسية. وتشرح المترجمة الدكتورة مشاعل ماهية هذا النظام: "الكليبتوكراسية" (Kleptocracy) بأنه مصطلح اصطنع في بدايات القرن التاسع عشر، ليصف النظام السياسي المُسمى "حكم اللصوص"، وهو النظام الذي يسمح بالفساد وسرقة المال العام والخاص من خلال تسهيل استغلال المناصب الإدارية والسياسية من قبل القائمين على مرافق الدولة، ويُطلق على المستفيدين من هذا النظام "كليبتوكراتس". وكلما انتشر هذا الوضع في النُظُم الديمقراطية، كان على القواعد الشعبية أن تُراجع المعايير الخاصّة بخياراتها الانتخابية.