بعد احتلال إسرائيل باقي الأراضي الفلسطينية في حرب 1967، ظهرت نظرية، شملت أوساطا يهودية في إسرائيل وخارجها، تفيد بأن ذلك الانتصار سينعكس سلبا، بانكشاف إسرائيل كدولة استعمارية، وبروز التناقض فيها، أكثر من قبل، بين كونها دولة علمانية وليبرالية وديمقراطية (نسبة لمواطنيها اليهود) وكونها دولة يهودية ودينية وعنصرية، إضافة، إلى ظهورها كدولة إسبرطية، تغلّبت على عدة جيوش عربية، عكس ادعائها بخطر يهدد وجودها.
مع اندلاع الانتفاضة (1987ـ1993)، التي عرفت بانتفاضة "أطفال الحجارة"، باتت إسرائيل تخسر مكانتها كضحية، في الرأي العام العالمي، لصالح الفلسطينيين، سيما مع تملصها من عملية التسوية، وإصرارها على الاحتلال والهيمنة، وصعود التيارات القومية والدينية المتطرفة فيها التي تصارع الفلسطينيين على حقوقهم وعلى كل أرضهم، من النهر إلى البحر.
الآن، مع حرب الإبادة المستمرة منذ ستة أشهر ضد فلسطينيي غزة، باتت إسرائيل، تظهر في العالم، وضمنه في أوساط يهودية، كدولة تتقمص جلادي اليهود، وتتماهى مع ممارساتهم النازية والعنصرية، بحيث ذهب بعضهم في إدانتهم لها حد تصوير غزة كمعتقل "اوشفيتز" النازي، وهو أحد معالم "الهولوكوست"، إبان الحرب العالمية الثانية، وتصوير المقاومة فيها كانتفاضة "غيتو وارسو"، في ذلك الزمن أيضا، حيث تمرد فيها اليهود على القوات النازية، وهو أمر لافت وغير مسبوق في النقد اليهودي لسياسات إسرائيل.
ومعلوم أن الحراكات الشعبية في مدن وعواصم الدول الغربية الرافضة لتلك الحرب، تميزت ببروز دور اليهود فيها، أكثر من أية فترة مضت، في تعاطفهم مع الفلسطينيين، بشعار "ليس باسمنا"، ورفضهم احتكار إسرائيل تمثيل اليهود، أو ضحايا المحرقة، ورفض الربط بين اللاسامية ومعاداة سياسات إسرائيل، مع الربط بين سعي تيارات اليمين القومي والديني المتطرف في إسرائيل إخضاع الفلسطينيين، والهيمنة عليهم، ومحاولات تلك التيارات السيطرة على الدولة والمجتمع الإسرائيليين، بالهيمنة على السلطة القضائية، وتقويض طابع إسرائيل كدولة ليبرالية ديمقراطية، لصالح كونها دولة يهودية ودينية.
نزع احتكار إسرائيل تمثيل اليهود
ما تقدم كان واضحا في تحليلات جوديث بتلر، ونورمان فنكلشتاين، وإيلان بابيه، وجدعون ليفي، وأبراهام بورغ، وعميرة هاس، على سبيل المثال، وظهر جليا في مظاهرات واشنطن (في الكونغرس وأمام البيت الأبيض) وفي نيويورك (وضمنها أمام مقر اللوبي الموالي لإسرائيل "أيباك"، وفي لندن وبرلين وباريس، إذ صدرت بيانات باسم الجاليات اليهودية موجهة إلى الحكومات البريطانية والفرنسية والألمانية تطالب فيها بعدم دعم الحرب على غزة وعدم تقييد حرية الرأي، في إدانة تلك الحرب وفي التعاطف مع الفلسطينيين.
وبرأي الفيلسوفة والأكاديمية الأميركية جوديث بتلر: "من الناحية التاريخية كانت انتفاضة 7 أكتوبر/تشرين الأول عملا من أعمال المقاومة المسلحة، وليست هجوما إرهابيا، وليست هجوما معاديا للسامية... لم أحب هذا الهجوم... كان مؤلما وكان فظيعا... لكنني سأكون غبية جدا إذا قررت فقط أن العنف الوحيد في المشهد هو العنف ضد الإسرائيليين".
أما نورمان فنكلشتاين (أكاديمي في الولايات المتحدة)، وكان والداه قد نجيا من المحرقة، فذهب في دفاعه عن شباب غزة، باعتبارهم ضحية ظلم إسرائيل، إذ "وجدوا أنفسهم في معسكر اعتقال كبير منذ ولدوا... أغلب الشباب من دون وظائف، ولا مستقبل ولا فرص". وعنده: "سجناء في معسكرات الاعتقال (كما كان والداه) اخترقوا البوابات... التي دمرت حياتهم". أيضا، النائب السابق لرئيس الموساد عميرام ليفين يرى أن "ما تشهده الضفة، بعد 57 عاما من الاحتلال، هو أبارتهايد، وأن الجيش الإسرائيلي بدأ بالتورط في جرائم حرب... تذكّر بالعمليات التي حدثت في ألمانيا النازية". ("يديعوت"- 7/ 9/ 2023).
أما الكاتبة الروسيةـ الأميركية ماشا غيسين (يهودية أيضا)، وهي سليلة عائلة نجت من المحرقة، فقد كتبت مقالة في "نيويوركر" عنوانها: "في ظل الهولوكوست"، دانت فيها الحرب على غزة وشبهتها بـ"غيتو وارسو"، معتبرة أن "الطريقة الوحيدة التي يمكننا أن نتعلم بها من التاريخ هي مقارنته بالحاضر... المحرقة كانت ممكنة وستظل ممكنة. إنه درس، وليس درسا معقدا بشكل خاص... مصطلح الحي اليهودي (في وارسو) هو وسيلة أكثر ملاءمة لوصف غزة من سجن في الهواء الطلق".
باتت إسرائيل تظهر في العالم، وفي أوساط يهودية، كدولة تتقمص جلادي اليهود، وتتماهى مع ممارساتهم النازية والعنصرية
اللافت أن ذلك برز في حفل الأوسكار في هوليوود (11/ 3/ 2024)، مع فوز المخرج اليهودي البريطاني جونتان غلايزر، بتلك الجائزة، عن فيلمه "منطقة الاهتمام"، إذ عبر عن رفضه قيام إسرائيل "نسب المحرقة واليهودية لنفسها"...ورفض اعتبار هجوم "حماس" كاعتداء "عنصري جماعي آخر في تاريخ اليهود...خلفية الهجوم نزاع قومي يحتل فيه الدين مكاناً مهماً، لكن ليس اللاسامية...هؤلاء يستخدمون المحرقة كي يبرروا المس بالأبرياء، بما في ذلك التجويع". ("هآرتس"-13/ 3/ 2024) وفي مهرجان برلين السينمائي تم منح جائزة الجمهور لأفضل فيلم وثائقي، لفيلم "لا أرض أخرى"، الذي يلقي الضوء على محاولات الاحتلال طرد الفلسطينيين من إحدى القرى في الضفة. وقد أدان المخرج الإسرائيلي (اليهودي) المقيم في القدس يوفال أبراهام ما وصفه بـ"ظروف الفصل العنصري" التي يعاني منها الفلسطينيون في إسرائيل. ولعل أكبر صيحة في هذا الاتجاه أتت من المخرج ستيفن سبيلبرغ (أحد أبرز الشخصيات اليهودية في هوليوود)، الذي انتقد الحرب الإسرائيلية على غزة، مؤكدا أن ذلك لا يتعارض مع إدانة معاداة السامية، بقوله: "يمكن الغضب من عملية طوفان الأقصى التي نفذها الفلسطينيون وأدت إلى مقتل نحو 1200 إسرائيلي، لكن يمكن أن ندين أيضا قتل النساء والأطفال الأبرياء في غزة"... لقد خلق صعود وجهات النظر المتطرفة بيئة خطيرة، والتعصب المتطرّف يقود المجتمع إلى عدم الاحتفال بالاختلافات، بل يتآمر بدلا من ذلك لشيطنة أولئك المختلفين... مع معاداة المسلمين والعرب والتمييز ضد السيخ. إن خلق (الآخر) وتجريد أي مجموعة من إنسانيتها على أساس اختلافاتها هو أساس الفاشية".
وفي الحقيقة فإن أبراهام بورغ (رئيس كنيست وأحد قادة حزب العمل سابقا)، ربما كان أول من أطلق وصف النازية على السياسات الإسرائيلية، وبشكل مبكر، في كتاب له عنوانه: "لننتصر على هتلر". وعنده: "اليهود الذين كثيرا ما كان يتم في السابق تشريدهم، يشكِّلون هم بالذات سبب تشريد الفلسطينيين... يتعين على الإسرائيليين أن لا ينسوا المحرقة... أن يتعلموا... ضرورة عدم تكرار ما حدث... لقد جيّرت دولة إسرائيل الهولوكوست النازي لمصلحتها وأصبح وسيلة لتبرير جميع الأعمال المنافية للأعراف الإنسانية التي تقوم بها... ووسيلة لابتزاز يهود العالم وأممه بمطالبتهم بدعم إسرائيل وكل أفعالها وممارساتها".
وبمناسبة الحديث عن انتفاضة "غيتو وارسو" (1943)، ضد القوات النازية، فهي تشبه كثيرا ما يجري في غزة، إذ تمت عملية ترحيل عشرات الألوف من يهود تلك المدينة، بدعوى التوطين في مكان آخر، في حين كان يجري نقلهم إلى معسكرات القتل في غرف الغاز. أيضا، وقتها تم الإبقاء على 35 ألفا من اليهود في الغيتو، ظلوا يتعرضون للإرهاب وتحت هاجس الترحيل إلى معسكرات الاعتقال الجماعي، لذا تم تنظيم نوع من مقاومة كبدت النازيين خسائر كبيرة، وقد اعتمدت قيادة تلك المقاومة حفر أنفاق، للاختباء بها، وقد استمرت الانتفاضة من يناير/كانون الثاني إلى مايو/أيار 1943، دمر الحي بعدها؛ وهذا شبه آخر بحال غزة.
وكما قدمنا، فإن تطرف القوى اليمينية الدينية والقومية ضد الفلسطينيين، أصابت عدواه التطرف ضد الإسرائيليين العلمانيين الليبراليين، ويشبه أبراهام بورغ ذلك بصعود النازية في ألمانيا، حيث ثمة "حركة سياسية... تُقاد... من قِبل نتنياهو...وأسسها القومية اليهودية المتطرفة والعنصرية... وهي مناوئة للعرب... ومناهضة لليبرالية... والديمقراطية... والمساواة الاقتصادية والاجتماعية... نحن نتصرف بالفعل في المناطق التي قمنا باحتلالها في الضفة وغزة... كما تصرف النازيون في المناطق التي احتلوها في الغرب". ("هآرتس"- 5/ 9/ 2023). وهو ما أكدت عليه عميرة هاس باعتبارها أن إسرائيل "تنفّذ خطة لإخضاع الفلسطينيين... هي توأم الانقلاب النظامي. فمن وضع الخطتين ومن أيدوهما هم من بيئة المستوطنين الصهاينة المتدينين". ("هآرتس"- 10/ 3/ 2024) ويمكن ان نلحظ تأثير كل تلك الأصوات في اضطرار أرفع شخصية يهودية في الولايات المتحدة، وهو تشاك شومر (رئيس الأغلبية في مجلس الشيوخ الأميركي)، المعروف بدعمه المطلق لإسرائيل، إلى التصريح بضرورة وضع حد للحرب ضد الفلسطينيين، وإجراء تغيير سياسي في إسرائيل.
مشكلة الأصوات اليهودية تلك، في إسرائيل وخارجها، التي تتحدى حكومات إسرائيل، والدول الغربية المتحالفة معها، في اعتبارها أي عداء لإسرائيل الاستعمارية والعنصرية ضد الفلسطينيين ليست عداء للسامية، واعتبار المقاومة لتلك السياسات ليست إرهابا، وإنما عمل مشروع ضد الاحتلال والظلم، وهو أمر لافت، ومهم جدا، لكنه يحتاج إلى وضع فلسطيني وعربي مناسب لاستثماره لصالح قضية فلسطين كقضية تحرر وعدالة في العالم.