وأخيرا أصدر القضاء التونسي أول الأحكام في قضية اغتيال المعارض اليساري البارز شكري بلعيد. شملت الأحكام التي صدرت بعد مرور 11 سنة عن تنفيذ أول اغتيال سياسي في تاريخ تونس الحديث، 23 متهما من "مجموعة التنفيذ". وتراوحت الأحكام بين الإعدام في حق 4 مدانين والمؤبد في حق اثنين آخرين وتبرئة 5 والسجن بين سنتين و120 سنة للبقية.
وانطلقت بمجرد النطق بالأحكام محاولات توظيف سياسي، تقودها في الأساس حركة "النهضة" التي يتهم زعيمها راشد الغنوشي من قبل هيئة الدفاع عن شكري بلعيد، بإصدار أمر تصفية أشرس معارضي حزبه خلال تلك الفترة.
ولم يرافق صدور هذه الأحكام تشكيك من أية جهة كانت. وهذا أمر لافت ويكاد يكون استثناء في تاريخ المحاكمات في القضايا ذات الصبغة السياسية والإرهابية بتونس.
من جهة أخرى قد تفهم هذه الأحكام على أنها إسدال لستار نهائي على مسار متعثر وطويل لقضية الاغتيال، خصوصا بعد مسارعة حركة "النهضة" إلى توصيف الأحكام بـ"إعلان تبرئة" لها من دم بلعيد بل وذهبت إلى حد المطالبة برد الاعتبار لمن طالتهم الاتهامات وعلى رأسهم الغنوشي.
رد "رفاق بلعيد" على بيان "النهضة" بالدعوة إلى مراجعة سير القضية منذ أطوارها الأولى وكيف عرفت تجزئة أو "تفكيكا" للملفات للتأكيد على أن الأحكام تتعلق بجزء من الملف وليس بالقضية برمتها. إجراء تفكيك (معمول به في القضايا الكبرى) كان قد خلف منذ بداية الأعمال التحقيقية استنكار هيئة الدفاع عن بلعيد التي أدانته واعتبرت أنه يهدف إلى طمس الحقيقة.
وترتبط قضية شكري بلعيد بعدة قضايا لا تزال محل نظر القضاء. وسيمكّن استكمال البت فيها من تحديد السردية القضائية الكاملة لعملية اغتيال شكري بلعيد، وهي سردية لن يكون لها أي قبول إن غابت عنها إجابات عن الأسئلة الثلاثة: من خطط؟ ومن موّل؟ ومن نفذ؟
المحامي رضا الرداوي، عضو هيئة الدفاع عن شكري بلعيد، قال منذ أشهر قليلة من مدينة جنيف السويسرية، إن ملف القضية يحمل خصوصية لا مثيل لها في تاريخ القضاء التونسي، وفسر ذلك بالقول: "تمت بعثرة المعطيات المتعلقة بعمليات الاغتيال ووضعها في ملفات جانبية وهامشية حتى لا يتم اكتشاف الحقيقة وكان على هيئة الدفاع البحث عن هذه الملفات ضمن ما يسمى المحاماة الاستقصائية".
ومن بين القضايا المتعلقة بالاغتيال والتي فتحت فيها تحقيقات وانطلقت فيها الأبحاث بعد ضغط من هيئة الدفاع، تبرز قضية الجهاز السري أو الخاص لحركة "النهضة". والقضية المعروفة إعلاميا بقضية "الغرفة السوداء" بوزارة الداخلية، وأيضا قضية رجل الأعمال فتحي دمق، وقضية التسفير إلى بؤر التوتر (من بين الموقوفين فيها نائب رئيس "النهضة" علي العريض) وقضيتا "مخازن الأسلحة" في محافظة مدنين جنوبي البلاد، والمنيهلة وسط العاصمة، بالإضافة إلى عشرات القضايا الإرهابية الخطيرة التي استُهدف فيها أمنيون وعسكريون.
من جهته اعتبر رياض الفاهم رئيس اللجنة السياسية لحزب "الوطنيين الديمقراطيين الموحد"، وهو الحزب الذي أسسه الراحل شكري بلعيد، أن صدور الأحكام ضد "مجموعة التنفيذ" يمثل بداية للكشف عن الحقيقة التي قال إنها "رهينة البت في بقية الملفات القضائية ذات العلاقة بالقضية الأصلية بعدما وقع تفكيكها". ويضيف الفاهم: "بتعليمات من نور الدين البحيري (قيادي بحركة "النهضة" ووزير العدل عند اغتيال شكري بلعيد) وبتنفيذ من حاكم التحقيق الأول المتعهد بملف الاغتيال"، والذي اتهمه المتحدث بارتكاب "كل الفظاعات" (قاضي التحقيق موقوف حاليا).
كما دعا الفاهم في تصريح لإذاعة "ديوان" المحلية، حركة "النهضة" إلى الحفاظ عن موقفها الإيجابي نفسه وثقتها في القضاء والالتزام بعدم التشكيك عند صدور الأحكام في بقية القضايا المرتبطة بملف الاغتيال. وذكّر الفاهم بتصريح لوزير الداخلية علي العريض (من القيادات التاريخية لـ"النهضة") كان قد أدلى به إثر عملية الاغتيال، رجح فيه أن تكون خلفياتها خلافا بين بلعيد، وهو محام، وأحد موكليه. وقد تم إثر هذا التصريح تكييف القضية كقضية جنائية.