الموقف العربي بعد ستة أشهر من الحرب على غزةhttps://www.majalla.com/node/313876/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D9%82%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A-%D8%A8%D8%B9%D8%AF-%D8%B3%D8%AA%D8%A9-%D8%A3%D8%B4%D9%87%D8%B1-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%BA%D8%B2%D8%A9
منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة، سعت المملكة العربية السعودية إلى تحقيق أربعة أهداف، هي: وقف العدوان وإدخال المساعدات للفلسطينيين في غزة. ومنع إسرائيل من تهجير الفلسطينيين. وعدم توسع الحرب لدول أخرى. والشروع فورا في عملية سلام تؤدي إلى إنهاء الاحتلال وقيام دولة فلسطينية مستقلة على أرضهم التي احتلتها إسرائيل في الخامس من يونيو/حزيران عام 1967 وفق إطار زمني واضح ومعلن.
ولقد عملت المملكة منذ البداية على توحيد الموقف العربي والإسلامي خلف هذه الأهداف، وقامت بعقد قمة عربية- إسلامية استثنائية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي في الرياض، وقام وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان بقيادة الوفود العربية التي جالت العالم لتحقيقها.
وبعيدا عن المبالغة، يمكن القول إن الدول العربية أفشلت حتى الآن المشروع الإسرائيلي بتهجير الفلسطينيين من غزة، بل ويمكن الادعاء بأن التهجير قد أصبح خلفنا والعالم اليوم بما فيه الولايات المتحدة- حليفة إسرائيل ومن تحميها في مجلس الأمن- ترفض التهجير رغم أنها حاولت تسويقه في بداية العدوان على غزة. الكل يتذكر زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن لمصر في بداية العدوان وطلبه من المصريين قبول دخول الفلسطينيين لأراضيهم إلى حين انتهاء الحرب.
ولقد نجحت المملكة أيضا مع الإخوة العرب في منع توسع رقعة الحرب رغم الاشتباكات المحدودة في جنوب لبنان واليمن. لكن مخاطر التصعيد تبقى قائمة، فالاشتباكات المحدودة يمكن أن تتحول إلى حروب مفتوحة وفي أي وقت إذا قرر أحد الأطراف أن القيام بذلك يخدم مصالحه.
فشل العرب في وقف العدوان الإسرائيلي سببه استخدام أميركا الفيتو ثلاث مرات
لقد فشل العرب في إدخال المساعدات الإنسانية لغزة، واليوم المجاعة بدأت تنتشر بين الفلسطينيين وتحديدا في شمال غزة. وأعلنت الأمم المتحدة وفاة 27 فلسطينيا حتى الآن بسبب المجاعة وأن أكثر من 80 في المئة من الفلسطينيين من سكان غزة مهددون بفعل حرب التجويع التي تخوضها إسرائيل ضدهم. ولقد شاهدنا أكثر من مرة كيف قتل الإسرائيليون المدنيين الفلسطينيين قرب دوار الكويت شمالي مدينة غزة وهم يحاولون الحصول على القليل من الطحين من المساعدات المحدودة التي سمح الاحتلال بدخولها.
وشاهدناهم يعبرون البحر وبعضهم غرق فيه وهم يركضون خلف المساعدات التي تم إلقاؤها من "السماء" وسقطت في البحر. كانت المشاهد صادمة لنا وللعالم أجمع. وهذا الفشل يعود في الأساس إلى رفض الولايات المتحدة ممارسة الضغوط على إسرائيل لإدخال المساعدات العربية المُكدسة في معبر رفح رغم تأييدها "اللفظي" لإدخالها.
وقد فشل العرب أيضا في وقف العدوان الإسرائيلي على غزة والسبب يعود للولايات المتحدة التي عطلت باستخدام حق النقض (الفيتو) ثلاث قرارات لمجلس الأمن تدعو إلى الوقف الفوري لإطلاق النار قدمها العرب لمجلس الأمن يوم 18 أكتوبر/تشرين الأول، و8 ديسمبر/كانون الأول العام الماضي، و20 فبراير/شباط من هذا العام. وحتى عندما امتنعت عن التصويت وسمحت بتمرير قرار وقف إطلاق النار خلال شهر رمضان المبارك يوم 24 مارس/آذار، قالت إن القرار غير مُلزم لدولة الاحتلال لأنه لم يصدر عن مجلس الأمن تحت البند السابع لميثاق الأمم المتحدة التي يخول الدول الأعضاء فيها باتخاذ تدابير إضافية تصل إلى استخدام القوة في حالة رفض تنفيذ القرار.
أكثر من ذلك، وبدلا من أن تصر الولايات المتحدة على ضرورة التزام إسرائيل بتنفيذ قرار مجلس الأمن كونها لم تعارضه على الأقل، قامت بحملة إعلامية موجهه لإسرائيل لتبرير موقفها. فبالإضافة إلى ادعاء الناطقين باسم البيت الأبيض ومجلس الأمن القومي الأميركي ووزارة الخارجية بأن القرار "غير ملزم" وأنه لا يؤثر "مطلقا" على تحقيق إسرائيل لأهدافها، كتب دان كيرتز، السفير الأميركي السابق في تل أبيب والمقرب من الرئيس بايدن، مقال "عتاب المحب" للإسرائيليين في صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية قال فيه، إنه لا يوجد رئيس أميركي وقف إلى جانب إسرائيل مثلما فعل الرئيس بايدن، مذكرا إياهم بالدعم العاطفي والمالي والسياسي والعسكري الذي قدمه لهم، وأن امتناع الولايات المتحدة عن اتخاذ الفيتو ضد قرار مجلس الأمن الأخير هدفه حماية إسرائيل التي تصبح يوما بعد يوم معزولة عالميا، وأن الرئيس بايدن بالتالي يستحق "معاملة" أفضل منهم ولا يستحق التأنيب كما يفعلون.
اليوم هناك تحدٍ جديد للدول العربية وهو أن دولة الاحتلال مصرة على اجتياح مدينة رفح الفلسطينية التي تأوي أكثر من مليون وثلث المليون فلسطيني والذين نزحوا من شمال ووسط غزة إليها بفعل الحرب. رغم أن رفح مدينة صغيرة لا تتجاوز مساحتها 55 كيلومترا مربعا وأي هجوم عليها سيؤدي إلى مذبحة حقيقية.
ما من شك في أن إدخال المساعدات لأهل غزة ومنع اجتياح مدينة رفح ووقف الحرب هي المهام العاجلة اليوم على طاولة القادة العرب وأن نجاحهم فيها ممكن اليوم أكثر من أي وقت مضى نظرا للإجماع الدولي غير المسبوق بشأنها. وسأكتفي هنا بالقول إن الجغرافيا والديموغرافيا للعالم العربي أكبر من أن تعاندها دولة الاحتلال الصغيرة ومن يدعمها.
التطبيع مع إسرائيل يجب أن يكون محصلة لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وليس سابقا له
في الصورة الأكبر، علينا أن نرى المتغيرات الاستراتيجية في الإقليم والعالم التي حدثت بعد ستة أشهر من الحرب على غزة لأن رؤيتها تساعد على تحقيق الهدف الأهم للرياض والعرب جميعا وهو إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والعربية (السورية واللبنانية)– الأخيرتان يجري نسيانهما عادة بفعل مركزية القضية الفلسطينية للعرب، لكن استمرار الاحتلال فيهما لن يمنح المنطقة العربية الاستقرار والسلام اللذين تريدهما.
سأبدأ بالقول إن الحرب على غزة عززت النظرة بأن التطبيع مع إسرائيل يجب أن يكون محصلة لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وليس سابقا له. والسبب في ذلك يعود إلى أن "الاحتلال" ليس أحد أنواع الصراعات التي يمكن حلها بتطوير العلاقات الاقتصادية والسياسية والثقافية بين البلدين. الصراع، أحيانا، يمكن حله بهذه الطريقة لأنه يكون "خلافا" بين بلدين على الحدود، أو على مصدر أو مصادر طبيعية مثل البترول أو الغاز أو المياه، أو خلافا ثقافيا أو أيديولوجيا. لكن الاحتلال هو السيطرة على منطقة ما وإدارتها من قبل قوة أجنبية أو قوة عسكرية. تاريخيا، الاحتلال كان ينتهي إما بسبب انتهاء الحاجة الاستراتيجية للدولة التي تم احتلالها أو بمقاومة ساكنيها.
في الحالة الإسرائيلية طبيعة الاحتلال أيضا مختلفة. هذا ليس احتلالا من النوع الذي عرفناه في السابق هذا الاحتلال طابعه "إحلالي" هو يريد الأرض ولا يريد أصحابها، وأكثر من ذلك، هو لا يعترف بأن الفلسطينيين هم أصحابها، وهو يقول إنهم عرب ويمكنهم أن يعيشوا في أي بلد عربي آخر لأن فلسطين التاريخية من بحرها لنهرها هي أرض إسرائيلية توراتية. هذا النوع من الاحتلال لا ينتهي بإدماج الدولة المُحتَلة في محيطها، بل بعزلها عن محيطها وممارسة الضغوط الدولية عليها وبمقاومة سكانها.
لذلك من المهم التأكيد على صحة موقف المملكة من مسألة التطبيع: ربط التطبيع بإنهاء الاحتلال. ويمكن القول هنا إن هذا الموقف الذي عبر عنه وزير الخارجية السعودي مرارا وتكرارا بما في ذلك أثناء اجتماعه الأخير في الرياض مع وزير الخارجية الأميركي الذي زار المملكة قبل خمسة أيام فقط من صدور قرار مجلس الأمن الأخير، قد دفع الولايات المتحدة وأوروبا للإعلان صراحة أن الوقت قد آن لتطبيق حل الدولتين، وأن هذا "الصراع" لا يمكن السماح له بالاستمرار لما يسببه من عدم استقرار دائم لمنطقة الشرق الأوسط وللعالم أجمع.
وللبناء على ذلك، أعلنت المملكة وأشقاؤها في مجلس التعاون الخليجي يوم 28 مارس رؤيتهم لأمن منطقة الخليج وجعلوا أحد أهم أولوياتهم "تفعيل المبادرة العربية في حل القضية الفلسطينية وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، مع التأكيد على الوقف الفوري لمحاولات التغيير الديموغرافي وطمس الهوية العربية وتهويد المقدسات الإسلامية والمسيحية". وأكدوا في بيانهم أن "استمرار انسداد آفاق الحل يعد عاملا أساسيا لزعزعة الاستقرار في المنطقة وأحد أسباب نشر التطرف والكراهية والعنف". وهي رسالة على الولايات المتحدة ودول أوروبا أن تلتقطها، مفادها أن طريق الأمن والسلام يمر بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وليس بدمج دولة الاحتلال في المنطقة قبل إنهاء الاحتلال.
ومن المتغيرات الاستراتيجية أن الحرب أيضا أحدثت تغيرات عميقة في الشارع الأميركي وكندا وأوروبا. اليوم إسرائيل تبدو معزولة عالميا وهي متهمة بممارسة حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني وهنالك اتجاه متعاظم عالميا يطالب بمقاطعتها ومعاقبتها، وهي لم تعد "بقرة مقدسة" لا يمكن لمسها أو الحديث عن "فجورها".
في أميركا أكثر من 55 في المئة من الشعب الأميركي يطالبون بوقف الحرب وبمعاقبة إسرائيل، وهذا لم يحدث في تاريخ أميركا منذ عام 1967. كندا أحد حلفاء إسرائيل قررت وقف تصدير السلاح لها. أيرلندا قررت الانضمام لجنوب أفريقيا في الدعوى التي رفعتها أمام محكمة العدل الدولية لمحاكمة إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة وقد تنضم إليها دول أوروبية أخرى مثل إسبانيا وبلجيكا والنرويج. الرأي العام بالمجمل في أوروبا يقف ضد حرب إسرائيل على غزة ويطالب بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. وهناك ضغوط كبيرة يتعرض لها قادة ألمانيا وبريطانيا من شعوبهم لوقف تصدير السلاح لإسرائيل أو لربطه على الأقل باحترام إسرائيل لحقوق الفلسطينيين.
أميركا أيضا تشعر بعزلتها عالميا وتُدرك أن إسرائيل قد تحولت إلى عبء عليها وربما يكون ذلك أحد الأسباب التي دفعتها للامتناع عن استخدام الفيتو ضد قرار مجلس الأمن الأخير الذي يطالب بوقف الحرب على غزة في رمضان. علينا أيضا أن نلاحظ أن هنالك أصواتا عديدة (لكنها ليست كافية) في الكونغرس الأميركي بدأت تطالب بربط تقديم المساعدات الاقتصادية والعسكرية لإسرائيل باحترامها لحقوق الفلسطينيين (وهو ما يعني إنهاء الاحتلال).
أيضا خلافات الإدارة الأميركية مع إسرائيل تتعمق، فهي تصر على ضرورة عودة السلطة الفلسطينية لغزة بينما حكومة الاحتلال ترفض ذلك. وهي تصر على عدم اقتطاع أي جزء من أرض غزة بينما تريد إسرائيل إقامة حزام أمني فيها.
الحل العسكري غير ممكن والانتقال للحل السياسي ضرورة وهذا ينسجم مع ما تطالب به السعودية
وهي لا تريد اجتياح مدينة رفح والتسبب في قتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين بينما دولة الاحتلال تريد ذلك وتصر عليه. وهي تريد من إسرائيل أن تمضي في طريق تبادل الأسرى بينما الأخيرة تضع العصي في الدواليب لمنع تحقيق ذلك. الرؤية الأميركية تنطلق من فكرة أن الحل العسكري غير ممكن وأن الانتقال للحل السياسي أصبح ضرورة وهذا ينسجم مع ما تريده وتطالب به المملكة العربية السعودية منذ بداية الحرب.
هذه متغيرات مهمة على الساحة الدولية يجب البناء عليها والعمل على تطويرها لمواقف سياسية واضحة تخدم مشروعي وقف الحرب على غزة وإنهاء الاحتلال للأراضي الفلسطينية.
في الصورة الأكبر في الإقليم أيضا يجب ملاحظة عجز إسرائيل عن تحقيق الانتصار في غزة. بعد ستة أشهر (والحرب لا زالت مستمرة)، إسرائيل فشلت في القضاء على التنظيمات الفلسطينية المسلحة، وفشلت في استعادة المحتجزين، وفشلت في إعادة سكانها إلى بيوتهم في غلاف غزة وفي الشمال أيضا، رغم أنها قامت بقتل وجرح عشرات الآلاف من الفلسطينيين وتدمير أكثر من 75 في المئة من بناهم التحتية. إذا كان هنالك من دلالة على شيء فهو يدل على أن إسرائيل ليست خارقة وأنها دولة يمكن هزيمتها وهو ما ينقلنا للنقطة الأخيرة في هذا المقال.
في تعليقي الأول على الحرب في هذا المنبر قلت: يجب عدم السماح لإسرائيل بالانتصار في هذه الحرب. البعض وبشكل ضيق يراها حربا على فصيل مسلح هنا أو هناك لكن هذه الحرب ليست على ميليشيات، هذه حرب على الشعب الفلسطيني بكل مكوناته وعلى مستقبل منطقة الشرق الأوسط.
إذا انتصرت دولة الاحتلال فستكرس احتلالها للضفة الغربية بما فيها القدس العربية وغزة أيضا
إذا انتصرت دولة الاحتلال فستكرس احتلالها للضفة الغربية بما فيها القدس العربية وغزة أيضا، وهي ستقوم بعمليات إذلال وتهجير للشعب الفلسطيني وضم أراضيه.
وانتصارها سيعطيها الدافع لشن حرب على لبنان وتكريس احتلالها لجزء من أراضيه وللجولان السوري أيضا، وهو ما يعني أن الاستقرار والسلام الذي يريده العرب من أجل الاهتمام بقضايا التنمية والازدهار لن يتحقق.
وانتصارها يعني أيضا أن العالم سيفقد اهتمامه بضرورة إنهاء الاحتلال وتحقيق تسوية عادلة لأن المنتصر عادة ما يأخذ ما يتمكن من أخذه. أما حرمان إسرائيل من تحقيق الانتصار، فسيجبرها على البحث عن تحقيق سلام حقيقي ودائم في المنطقة، ليس حبا في السلام ولكن رغبة في تأمين نفسها وحمايتها.