صُدم العالم من وقع الهجوم الإرهابي في موسكو، والذي تبناه تنظيم "داعش خراسان"، وانهمرت التحليلات لدراسة أبعاده وخلفيته. وقد جاء الهجوم قبل يومين من ذكرى الغزو السوفياتي لأفغانستان، إذ صرّح وزير الداخلية في حكومة "طالبان" خليفة سراج الدين حقاني، خلال لقاء بالمناسبة: "أنا من أقران وأتراب الثورات، ومنذ نحو 44 عاما كانت في أفغانستان حروب وثورات، ولكن الآن بعد ما أنعم الله علينا بالحرية ينبغي لنا الآن أن نعمل للتوحد ونكون يدا واحدة".
لقد اعتمدت حركة "طالبان"- وهي التي تشكل الحكومة الحالية في أفغانستان- في الدعاية لشرعيتها على تلك المرحلة، باعتبار أن قادتها من الذين شاركوا في "الجهاد الأفغاني" ضد السوفيات، وكانت حينها الصحافة العالمية إلى جانبها، كحلقة تاريخية من حلقات الحرب الباردة. وصحيح أن تلك المرحلة انتهت، لكن أبعادها لا تزال مستمرة. فالعدو القومي في ذاكرة الأفغانيين لا يزال روسيا، و"داعش خراسان" ينشط في البيئة نفسها التي أقامت "طالبان" فيها دعايتها، وهو ينافسها على القيادة والزعامة، ولذا فإن "داعش خراسان" يرى أن العودة في التاريخ إلى مرحلة قتال الروس يصب في مصلحة شعبيتها.
ولفهم عقلية التطرف لا ينبغي أنْ يتم التعامل مع الأمر كأنه دعاية انتخابية وفق السياسات الداخلية والخارجية، إذ إن الجماعات المتطرفة تتنافس فيما بينها في لعبة تسجيل النقاط، بناء على الأيديولوجيا المشتركة. ولما كانت عقلية "طالبان" لا تزال تعتمد على تركة مرحلة الثمانينات، فإن "داعش خراسان" يسعى إلى منافسة الحركة في مضمار العدو التاريخي لأفغانستان في تلك المرحلة، وهذا يعتمد على ملاقاة الأفكار الشعبية في عقول الأفغانيين ومناطق الجمهوريات السوفياتية السابقة، لا على ما يقوله العالم اليوم عن مثل هذه الأعمال.
"داعش خراسان"، يريد أن تظهر "طالبان" كأنها تتنكر لماضيها القديم
الطريقة الدعائية تلك، استغلها تنظيم "القاعدة" في السعودية حين قرر أن يخالف الأدبيات الجهادية الكلاسيكية الأقدم منه في السبعينات ودعا إلى ضرورة استهداف العدو القريب بنظره، أي الدولة السعودية التي حكم عليها بالكفر، ورأى ضرورة استهداف الأجانب وعلى رأسهم الأميركيون لسبب دعائي كانت مجلتهم "صوت الجهاد" تتحدث عنه، وهو أن يظهروا الحكومة السعودية بمظهر من يدافع عن الأميركيين، ولذا قالوا: الأميركيون هم المستهدفون في الأساس. وهذا يقرب إلى فهم النهج الذي يتصرف وفقه "داعش خراسان".
وبعد سيطرتها على أفغانستان، وحرصها على الاستقرار تحت سلطتها، كانت "طالبان" ملزمة بإعطاء ضمانات أمنية للدول التي تحيط بها، وعلى رأسها روسيا والصين، حتى لا تتحول أفغانستان إلى ساحة انطلاق للأعمال الإرهابية تهدد تلك الدول. ولما كانت دعاية "طالبان" لشرعيتها تتبع فكرة قتالها للروس في الثمانينات، فقد أصدرت الحركة بيانا شديد اللهجة يدين الهجوم الدموي في موسكو، وهذا بالضبط ما تريده "داعش خراسان"، أي أن تظهر "طالبان" كأنها تتنكر لماضيها القديم، فتتهمها بأنها تدافع اليوم عن روسيا التي سبق أن احتلت قواتها أفغانستان. وهكذا تحسب أنه يمكنها أن تجند عناصر جديدة في أفغانستان والمناطق المحيطة بها، وهي التي تعرضت لسيل دعائي كثيف ضد روسيا في مرحلة الثمانينات، وهذا كله استثمار مبني على تركة الماضي.
الأيديولوجيا الجهادية المتطرفة في أفغانستان نشأت في ظرف قتال الروس
لماذا روسيا تحديدا؟ تنظيم "داعش خراسان" عانى بعد انسحاب الأميركيين من أفغانستان من عدم وجود عدو واضح يزيد شعبيته، فاستهدف الشيعة في باكستان وأفغانستان، وقاتل عناصر "طالبان". لكن هذا كله لم يرفع شعبيته المتضائلة، ولم يدفع إلى الانضمام إليه بكثافة، بيد أن روسيا هي العنوان التاريخي الأبرز الذي يمكن أن يجدد له دعايته. فحدود أفغانستان مع جيرانها تعاني من مشكلات كبيرة، ولذا لم يكن مستغربا أن تكون أفغانستان أكبر مصدّر للمخدرات في العالم، إذ إن حدودها مع الدول المحيطة لا تزال غير مضبوطة، فضلا عن إمكان رشوة رجال الرقابة عليها. أما بالنسبة إلى الصين الدولة الحدودية مع أفغانستان، فلا يوجد مسوغ دعائي لاستهدافها بين الأفغانيين. فعلاقات الصين مع أفغانستان مهمة للأفغانيين، من حيث الاستثمار، ولا يوجد سابقة تاريخية لاحتلال الصين لأفغانستان، ولذا فإن استهداف روسيا أسهل وأكثر دعائية.
صحيح أن الهدف الدعائي الأقرب إلى المحلية هو استهداف روسيا، لكن يجب أن لا ننسى أن الأيديولوجيا الجهادية المتطرفة نشأت في ظرف قتال الروس، ولذلك فهي بوابة لـ"داعش خراسان" إلى التصدر العالمي بين الذين يكنون احتراما وتقديرا كبيرا لتلك الأيام القديمة، والتي كُتبت خلالها أهم كتب التنظير المتطرفة، ومن أبرزها كتابات عبد الله عزام، الذي لا يزال يحتفظ بمكانة بارزة في صفوف التنظيمات الإرهابية. ولا شك أن أجواء الحرب في أوكرانيا تلقي بظلالها على نشاط تلك الجماعات، مع وجود بعض المتطرفين الذين يقاتلون إلى جانب أوكرانيا، لكن العلاقة بين هذه الجماعات وأوكرانيا تُقرأ كعرَض جانبي للمرحلة السابقة في الثمانينات، وللأوضاع الحالية في أوكرانيا، مع غياب الدليل البيّن على وجود علاقة مباشرة لتورط استخباراتي في عمل دموي وعبثي مثل هذا.