- في العام 2000 أصدرت كتاب "العرب وعودة الفلسفة"، بين ذاك الوقت والوقت الحالي، كيف تُقيم حقل التفلسف في الواقع العربي، وهناك مَن ينكر وجوده أصلا؟
للجواب لا بد من إبراز معيار يحدّد لنا القول المنتمي إلى الفلسفة. كل سؤال متعلق بالوجود والمعرفة والقيم، بل كل سؤال متعلق بالواقع المعيش ويتحول الى مشكلة ويخضع للتفكير الذي ينتج نصا حول الماهية، هو سؤال فلسفي. من سؤال ما الإنسان إلى سؤال الحقيقة والحق والدولة والحرية والتأويل إلى الوجود الذاتي إلى البحث عن المعنى... وقائمة المشكلات تطول. لو تتبعنا الأسئلة التي انتصبت أمام العرب منذ عصر النهضة وتحولت إلى مشكلات لوجدنا أن جُلها قد دارت حول فكرة المصير والتاريخ والحرية والتقدم والهوية، وهذا يعني أنها مشكلات من حيث ماهيتها الفلسفية.
والحق أننا جميعنا، نحن العرب المشتغلين بالفلسفة، قد مررنا في مرحلة الخلط بين الأيديولوجيا والفلسفة، ولهذا ظل جل المفكرين العرب على هامش الفلسفة.
قبل كتاب "فلسفة الأنا" في 2005، كان هناك اتجاه مختلف كلية كمحور رئيس لانشغالاتك، تمثل بالفلسفة عموما أو علاقتها بالعرب، ما سبب هذه النقلة لتصبح الأنا مركز الانشغال لديك إلى درجة أنك أصبحت تُعرَف بفيلسوف الأنا؟
القول الفلسفي في "الأنا" هو وعي حقيقي بمشكلة الإنسان في العالم العربي، وقد يراه البعض قولا فلسفيا مجردا، وهو كذلك، لكن هاجسه الأساس هو الإنسان في علاقته بالتاريخ والواقع، فلا تصنع التاريخَ إلا "أنَوات" واعية لدورها في هذا العالم. الإنسان في العالم العربي لم يمُت، لأنه لم يعش كي يموت، ولم ينتهِ، لأنه لم يبدأ كي ينتهي، ولم يغب، لأنه لم يكن حاضرا كي يغيب. والانتصار للأنا دعوة إلى ولادة الإنسان، عندما تنتصر "الأنا"، بوصفها وعيا ذاتيا بالتفرد، يصبح تعدّد "الأنوات" دافعا لها في اتجاه صنع تاريخها الواعي، لأنها تكون قد وعَت حريتها في الفعل والممارسة والقول، فـ"الأنا" لا وجود لها خارج فعل الحرية.
لذلك يحول دون ظهور الـ"أنا" وولادتها في عالمنا العربي، ما أسميه النظام المتعالي على الـ"أنا"، هو نظام قامع يتكون من النظام السياسي الذي قام على الاستبداد العسكريتاري، تضاف إليه السلطةُ الدينية من أولئك الذين يُحصون سكنات الأنا وحركاتها، ويقيمون عليها حدود جهلهم. وحين يرتبط الدين بالسياسة، يخلق سلطة أشد فتكا.
أنطولوجيا الذات
- بعد "فلسفة الأنا" عدت إليها، وبعد عشر سنوات في العام 2015 من خلال كتاب "انطولوجيا الذات"، لماذا هذه العودة، ما الذي تبقى وتريد أن تقوله في الأنا؟
الذات هي الأنا وقد انتقلت إلى الخارج، إلى الفعل، فتعينت بأشكال الكينونة الواقعية.العودة إلى الذات مواجهة مصيرية مع العقل التقني – الرأسمالي، مع العقل المصرفي – العولمي الذي لا يرى الإنسان ابنا للأم – الطبيعة. العودة إلى الذات ليست عودة رومانسية إلى الطبيعة، بل عودة إلى الطبيعة من أجل حمايتها من التدمير الإجرامي الذي يمارسه الرأسمالي والسلطة المدافعة عنه، ولهذا آنَ لنا أن ننتقل من حافة الفلسفة إلى الدخول في أتونها، متكئين على وعيٍ أوليّ بالفلسفة. ليست مهمةُ الفلسفة إضاءةَ الكهف وإبقاء الناس فيه، بل إخراج الناس من الكهف إلى الكينونة الحرة.
في "انطولوجيا الذات"، أحرر الذات من أسر الميتافيزيقا، فلقد عوملت الذات معاملة قاسية جدا حين نُظر إليها من زاوية ماهوية، وعوملت مثالا أفلاطونيا. الذات التي أُعيد إيقاظها من ذلك القبو المظلم الذي وضعها فيه تاريخ الفلسفة الملوث بالحتمية، أو ذاك الذي يراها بعيونٍ بنيوية فقط، هي الذات التي يرن صوتُها في أذني، وهي التي أسعى إلى أن أعيد إليها صوتها بعدما أصمتوها، أعيد إلى عقلها حق التفكير بعدما شلّوها، ثم أضع بيدها المرفوعة الشعلة بعدما رمدوها.
كينونة معتمة
- عنونتَ كتابك الأخير، "الكينونة المعتمة"، حدثنا عن هذه الكينونة وهل الوجه الآخر هو كينونة مشرقة أو مضيئة؟
نحن أمام ثلاثة أشكال من معاني الوجود الإنساني: معنى وضيع، ومعنى سامٍ ولا معنى، لأن اللا معنى معنى. قد نجد هذه المعاني ظاهرة واضحة نظيفة لدى هذا الكائن الإنساني أو ذاك. وقد نجدها متداخلة في حياته، قد ينتقل الإنسان في شروط ما من معنى إلى آخر.
حين يكون وجودك الذاتي آمالا ضيقة وأنانية صرفة، فإن أناك -لا محال - منهزمة أمام الحياة المبتذلة وإغرائها، وحين يكون وجودك الذاتي آمالا عظيمة تنتصر على الوجود المبتذل، يصبح وجودك نموذجا مغريا، أما حين يكون وجودك بلا ملامح ولا آمال لديك أصلا، فيصير وجودك وحيدا منتظرا العدم.
أما في "الكينونة المعتمة"، فقد انتقلت من الشر المجرد إلى الشر المتعين في الذات. فليست الكينونة المعتمة إلا وجود الشر بوصفه نفيا للآخر بكل أشكال النفي، النفي عنفا وليس الاختلاف مع الاعتراف، فهل يكون الرد على الكينونة المعتمة بمثلها؟ يحملنا هذا السؤال على استعادة النظر في مشكلة القيم في واقع متعين جديد.